بين الوعي والفهم والحياة

بين الوعى والفهم والحياة

نشر بجريدة الوطن الجمعة 9 / 10 / 2020

بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين

كتبت يومًا عن البشر والكون والإيمان ، وإذ بتداعي الخواطر ينقلني من خَلْق الإنسان وصلته بربه ، إلى ما ينمو لدينا من الفهم والمعرفة مدى أعمارنا المقسومة لنا .. وإلى التأمل فيما صار إليه هذا الفهم وتلك المعرفة . فما عندنا نحن الآدميين من المعرفة مما يمكن أن نسنده لأنفسنا هو حصاد الارتقاء من مرحلة الوعي الساذجة إلى مرحلة أو مراحل الفهم .. وهذه لا آخر لها ولا نهاية .. لأن حياة الآدمي منذ زمن تخالطها تطورات فهمه لحياته ومحيطه والكون ، وهي في طريقها إلى الامتزاج والملازمة لهذا التطور الذي لا يمكن أن ينتهي .

وهو فهم مهما تعاظم وتعمق لا يُعقل أن يستوعب وعي ما يسميه الآدميون بالمطلق والأزلي والأبدي وغير المحدود في أي اتجاه ، لأنه خلف كل اتجاه وداخل أي اتجاه دون أن يتجدد !

ولا جدوى في هذا الصدد للإحالة على كلمات من مثل : خلق وصنع وأنشأ وابتدع ، ولا إلى نتائجها من آلات وأدوات ومعدات ووسائل وطرق ومنتجات .. من محاصيل وزراعات وأزهار وأشجار ، أو من أفكار وآراء وأحكام ومذاهب وعقائد فاقدة الوعي بهذا الوجود ، وعديمة الفهم .. لأنها لا وعي لـها ولا إحساس بالذات ! ومصدقات ومعارف وعلوم وفنـون وآداب !.. فهذه كلها نواتج بشرية في ذاتها ، جمـادات أو في حكم الجمادات .

فنحن مهما تطاولنا ، مخلوقات أنعم عليها الخالق ـ جل شأنه ـ بالوعي والفهم دائمي النمو والتطور بلا نهاية ، ما دام النوع الإنساني مصرًّا على احترام وعيه وفهمه والانتفاع بهما . نحن مخلوقات وسط قد يكون لنا أمثال في هذه الوسطية في الكون العظيم ، يمكننا بهذا أن نعي ونفهم على مقدار قابل للزيادة الهائلة وللنقـص والتقلص الهائلين ، يمكننا أن نعي ونفهم وجود الخالق عز وجل ووجود الكون العظيم الذي خلقه سبحانه وتعالى ونحن ضمنه .

ولكننا يستحيل علينا أن نعي أو نفهم الخالق جل شأنه .. حتى كما نعي ونفهم أنفسنا أو غيرنا من الآدميين أو غيرنا من الأحياء .. أو حتى كما نعي ونفهم الكون العظيم وما فيه . وهذه الاستحالة بديهية لدى المتأمل ، لكنها تبدو غريبة لدى الإنسان العادي .. برغم أنها لازمة من لوازم الخلق طبقًا للناضج من عقـول الآدميين . إذ لا يعقل خلافها ويستحيل أن يكون الآدميون المخلوقون خالقين أبديين إلى جوار خالقهم تبارك وتعالى .

وإشارات القرآن المجيد إلى آدم تشير في عمقها إلى هذا المقصود .. وقوله سبحانه وتعالى : « وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ » ( البقرة 31 ) ـ إشارة إلى آدم التام الذي زوده المولى عز وجل بالوعي والمعرفة والفهم ، والذي زود من روح خالقه ـ سبحانه ـ ما استحق به أن تسجد له الملائكة ، وما استحق به أن يعيش هو وزوجه في رضا ورغدٍ تامّين .

لكن آدم مُنح مع تمام المعرفة والفهم ، مُنح حرية المشيئة والاختيار لما يستطيب ، فهيأت له نفسه أو خيلت إليه في لحظةٍ نسى فيها خالقه أن يطلب لنفسه أن يكون خالدًا ذا ملك لا يبلى ، فسقط بذلك الطلب وزن كل ما كان لديه من تمام الوعي والمعرفة والفهم ، فأخرج من حيث كان ، لتضيق عليه الأرض بما رحبت ، وليمضي حياته في هداية نفسه وأهله ومن حوله في محيطه ونسله حتى لا يقع منهم مثل ما وقع فيه حين أعطى ظهره للوعي والفهم فخسر ما كان فيه من الإكرام والإنعام !

كان نجاح آدم في أولاده محدودًا ، وقد نبه القرآن المجيد إلـى أن الله تعالى اصطفى آدم ونوحُا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ، فقال تعالى : « إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ » ( آل عمران 33 ) .. ويقـول عـز وجل : « قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » ( البقرة 136 ) ..  هؤلاء الأنبياء هادون مهتدون ؛ أولهـم آدم بعـد تلك المحنـة التي مَرّ بها  .

ووجود الأنبياء كل في زمنه ومحيطه كهادين واعين عارفين فاهمين ، قد استلزمه وجود الكثرة الكافرة من البشر ، الجاهلة الغافلة اللاهية المنصرفة في بدائيتها وتأخرها في عاداتها وأخلاقها ومفاهيمها وغاياتها وأغراضها  .

ومع تطور المجتمعات في القرنين الأخيرين ، والتفاتها واحتياجها اقتصاديًّا وسياسيًّا إلى نشر التعليم في جـميع الطبقات ، ومع ما واكب ذلك من اتساع نطاق الإعلام والثقافة بين الجماهير ، كثر دعاة الهداية والتبشير ، وكثرت مراكزهم ووسائلهم وأساليبهم ، وقلت استجابة الجمهور إلى الدعـاة الجدد ، ولم يعد ظهور بعض الزاعمين يجتذب الأنظار والأسماع والأنصار إلاّ بقدر محدود جدًّا .. خاصة وقد اتسعت وتعددت ألوان الدعوات لاجتذاب الجماهير دينية ولا دينية ، وسياسية وغير سياسية ، ووطنية وثورية ، ومحافظة وراديكالية ، وصوفية ويوجية وكريشنامورية وثيوصوفية .. وظلت عامة الناس في البلاد المتطورة وغير المتطورة ، منتمية برغم ذلك إلى أنبيائها ودياناتها انتماءً خاليًا في الأغلب الأعم من الحماس والعمق !

هذا وأكثر أفكار الآدمي خواطر داخلية بلا واقع فعلى يحركها ويثيرها .. وهى فيما يبدو تستعجله إلى الحركة والتحرك .. وهو إذا اعتاد عليها دون أن يتحرك ، فقد  أو كاد معظم ميله الغريزي إلى الحركة والفعل ، وأدمن ذلك النوع من التفكير العقيم ، وصار أسير الخيالات والخواطر الفارغة لا يتركها ولا تتركه !

ويبدو أن هذا الفقدان للميل إلى الحركة والفعل .. هذا الفقدان المتواتر السائد ، يرجع إليه معظم ما لدينا من مخالفة أفعالنا لأقوالنا ، وكثرة وسهولة وعودنا وعزومنا وعهودنا وقلة ما ننفذه ونلتزم به منها ، وتقلص التمسك بالإخلاص والأمانة والوفاء ، وتعذر الصبر الطويل على احترام كلمتنا والتزام حدود عقيدتنا في الإصرار على الامتثال الفعلي لمبادئنا المعلنة  ، وهو المقصود الحقيقي من الاستقامة .

كما يبدو أن هذا الفقدان سبب من الأسباب الرئيسية لما نتصف به مما بلغناه من أنواع وصور القسوة وعدم المبالاة ، وقلة الشفقة والرحمة حتى لمن يستحقونهـا مـن أهلنا أو جيراننا ومعارفنا .. ثم يرجع أيضا لهذا الفقدان ـ بعض أسباب ولـع الآدمـي بترديد العموميات أو التجريد والحكم والقواعد ، لأنها خالية بالنسبة له من الإلزام في التطبيق الفعلي .. وهذا يغري الآدمي بحفظ أمثال تلك المقولات العامة ، وقد يدفعه إلى تقصيها وينتهى به إلى التعالم وسعة المعرفة والتبحر في العلم .. وإلى اعتباره عند نفسه وفي بيئته متعلمًا أو عالمًا أو عـارفًا ، دون أن يتحقق لديه وفي أعماقه رسوخ الأمانة والإخلاص والتراحم . ومن هنا كانت تنفصل الأخلاق والتدين عن المعارف والعلوم ،  بانفصال القصد الفعلي في كل ما لدى البشر ، وذلك قبل أن تتداخل هذه في تلك ، نتيجة الاحتراف والارتزاق !

 

زر الذهاب إلى الأعلى