بين المظهر والمخبر
بقلم : رجائى عطية نقيب المحامين
قليل وربما نـادر ـ بين الآدميين ، من يستطيع أن يقدم الموضوع على ذاته ، وقليل وربمـا نادر من يخلـو ـ بقدر أو بآخر ـ من المظهرية أو الميل إلى الاستعراض !
المظهرية آفة تشد الآدمى بعيدًا عن الجد والموضوعية ، وتورده موارد الاستعراض الذى يصرفـه عـن الموضوع ومـا يستوجبه ، إلى « التظاهر » الذى كثيرًا ما يشرد به ـ بقدر كبير أو ضئيل ـ عن موجبات التصدى واتخاذ الأسباب الجادة الفاعلة لما يريده أو يدعى للآخرين أنه يريده ! المظهرية تسحب من الرصيد الذى يكتتب به الآدمى فى الحياة، وتجعل اهتمامه محصوراً فى « الصورة » التى يريد أن يرسمها لنفسه فى عيون الآخـرين ، لا فيمـا يتعين عليه عملـه سـواء أرضى أو أسخط أو أغضب !
آفة الاستعراض أو المظهرية تكاد تكون طبعاً يصاحب الآدمى منذ يولد طفلا يسعى بحواسه وغريزته إلى لفت أنظار أمه ثم أنظار الأسرة والمحيط إليه .. لا سبيل أمـام غريزته للإعـلان عن احتياجاته الأولى إلاّ بإطلاق صرخاته .. يفعل ذلك حين يطلب « الرضعة » أو يريدها قبل موعدها ، ويفعل ذلك حين ينشد « لعبة » أو « دمية » أو يسعى لإملاء رغباته .. ويفعل ذلك حين ينمو وينشد لفت أنظار والديه عن الوليد الجديد، تحركه الغريزة إلى الاستعراض والتحايل بكل السبل لإظهار لطفه ومزاياه ليشد إليه الانتباه ويسترعى الاهتمام بدلاً من سواه .. يكبر هذا الطبع مع نمونا ويلازمنا أو يفارقنا بنسبٍ متفاوتة تبعاً للنضج والفهم والقدرة ـ النسبية ـ على الانسلاخ من خصلة الاستعراض ، فإذا نما الميل إلى الاستعراض ضمر معه اهتمام الآدمى بالجوهر والواقع والموضوع ، وصار انشغاله محصوراً ـ بقدر أو بآخر ـ بذاته وصورتها فى عيون الناس لا فى عين الواقع والحقيقة ..عزيز إن لم يكن محالا على الآدمى العادى أن يخرج من « شرنقـة » الذات .. هـذه الشرنقة بداية تحـول « الطبع » إلى « مرض » تعارفنا على وصفه بالمظهرية أو الميول الاستعراضية .. يكبر هـذا المرض ويطفـح كلمـا زاد الاهتمام بالصورة أو المظهر عن « المخبر ».. قليلون هم من يهمهم « المخبر » عن « الصورة » أو « المظهر » .. أكثرنا منشغل برسم « الصورة » التى يحب أن يراه الناس فيها ، ويزداد الاهتمـام بالصورة : حين يزداد الاهتمام أو تهيمن الرغبة فى استجلاب رضا المحيط .. ورضا المحيط قد يكون قريبًا ، وقد يكون عزيز المنال .. ولكنه ـ قرب أو عز ـ لا يعبر فى كل الأحوال عن « المخبر » .. لأن معظم الناس ، يرى بغرائزه وحواسه ، وربما بروح القطيع ـ قبل أن يرى بعقله وفهمه .. يتابع أهواءه قبل أن يتأملها ويعمل فكره ..هذا الطبع الذى يحكـم « الجمـاهير » بعامـة ، هـو الذى يزين لطـلاب « الصـدارة » و« المواقع » و«المراكز » و« الألقـاب » و« الرياسات » أن يستقربوا المظهرية والاستعراض ، وسبلها سهلة ، ويأنفوا رهق وعناء العمل الجـاد الذى قد لا يحقق رغـم جديته وعنائه ما تنالـه « المظهريـة الاستعراضية » من رضاء ومباركة الجموع !! وأكثر ما يطفح هذا العرض فى انتخابات المجالس النيابية والاتحادات والأندية والنقابات والأحزاب ، وفيما يسمى بالأعمال العامة !.. يكاد يكون الشعار : قل ما يرضى الناس وافعل ما شئت ! من أمراض هـذه « المظهرية » حلول « الكلمـة » المجـردة أو الكاذبة أو المخادعة ـ محل الفعل الجاد الصادق المؤثر .. حلول الكذب والمداهنة والرياء والتظاهر والتصنع ـ محل الصدق والإخلاص .. مـن آثـار المظهريـة أن تضمر قيم الجـد والالتزام .. أن تتحول الأعمال المرجوة إلى أوهام وأضغاث !!
استحضر هذه المعانى موقف عظيم لافت للزعيم سعد زغلول .. ترك فيه« المظهر» ـ إلى « المخبر » .. قبل راضيا مضحيا أن يظهر ـ شكلا ـ فى موقف بدا فيه بنقيض ما تريده الأمة ليحقق للأمة ما تريده .. عاش معى لسنوات أن سعد زغلول المشهور بقدرته الفذة
على الاقتراب من الجماهير والرأى العام ، قد خالف إجماع طوائف الأمة حين انحاز إلى مدّ امتياز شركة قناة السويس ، وتبنى عرض هذا النظر ـ كوزير ممثل للحكومة ـ أمام الجمعية العمومية !!.. ظلت معى هذه الصورة لسنوات دون أن تسحب من رصيد سعد زغلول ، فرصيده ضخـم لا يضيره هنة ، إلـى أن أخذتنى الكتابة فى « رسالة المحاماة » إلى مذكرات أحمد شفيق باشا رئيس الديوان الخديوى لسنوات طويلة ، كان فيها فى قلب الأحداث التى سجلها فى مذكراته التفصيلية التى شغلت أربعة مجلدات .. ربما لاحظ القارئ لمذكرات شفيق باشا أن هواه لم يكن مع سعد زغلول ، وربما لاحظ غمزاً عليه فى بعض الأحيان ، ومن هنا تأتى قيمة شهادته التى وقعت عليها بالصدفة وأنا أفتش عن دور المحاماة فى الحركة الوطنية فصححت خطأ لازمنى لسنوات ، وكشفت صورة رائعة مناقضة لآفة الاستعراض بلغت حد قبول سعد زغلول بتضحية ظاهرها يسحب من صورة الزعيم فى عيون وأذهان الناس !
كان سعد زغلول وزيراً فى وزارة بطرس باشا غالى حين عرضت شركة قناة السويس على الحكومة مد امتياز القناة أربعين سنة جديدة لقاء أربعة ملايين جنيه .. انتهزت الشركة فرصة الأزمة المالية ، وتقدمت بالاقتراح مشفوعاً بتأييد المستشار المالى الإنجليزى ، والسير جوست المعتمد العام البريطانى وكذلك بطرس باشا غالى رئيس مجلس النظار ..
كان ظنى على ما شاع ، أن سعد باشا كان من المشايعين لمشروع مد الامتياز ، مادام هو الذى تولى عرض وجهة نظر الحكومة المصرية المؤيدة للمشروع على الجمعية العمومية ، ولكن شدنى فى رواية أحمد شفيق باشا لحوادث سنة 1909 ثم سنة 1910، أنه مع إشارته لوقوف الرأى العام ضـد هـذه الفكـرة أضـاف للمعارضين ( جـ 3/186 ) : « وكذلك بعض النظار كسعد باشا ورشدى باشا ومحمد سعيد باشا » .. فلماذا إذن كان سعد باشا هو لسان الحكومة العارض لوجهة نظرهـا المؤيدة للمشروع ـ الذى يناهضه ـ على الجمعية العمومية ؟!
زال العجب حين تابعت أحمد شفيق باشا ، فاكتملت جوانب الصورة التى ما كانت لتكتمل لولا سرده لما جرى وراء الكواليس .. بعيداً عن الاستعراض ، والمظهرية ، نمت فكرة عرض المشروع على الجمعية العمومية ـ ورفضها له مقطوع به ـ للتخلص من ضغط سلطات الاحتلال على الحكومة لتمرير مد الامتياز .. وتولى المعارضون للمشروع ترويج فكرة العرض على الجمعية العمومية ـ حيث تبناها من القريبين إلى سعد باشا : محمود سليمان باشا ، وعلى شعراوى باشا ، وأحمد يحيى باشا ، وتحدث فيها آخرون إلى بطرس باشا غالى ، وتحدث إليه فيمن تحدثوا أحمد شفيق باشا موفداً من الخديوى الذى تحسب من رد فعل
الرأى العام الرافض للمشروع فأرسل يبدى أنه لا يمانع فى عرض المشروع على الجمعية العمومية .
يروى أحمد شفيق باشا ( جـ 3/187 ، 207 ) أن بطرس باشا غالى رئيس النظار اقتنع بالفكرة ، وأنه نجح فى إقناع المعتمد البريطانى بضرورة استشارة الجمعية العمومية ليكـون رأيهـا هو الفيصل . ومن هنا نبعت فكرة أو شرط أن يكون سعد باشا زغلول بمكانته ، هو الوزير الذى يتولى عرض وجهة نظر الحكومة المشايعة للمشروع على الجمعية
العمومية !
تنفيذ هذا الشرط يسحب من رصيد سعد زغلول لدى الأمة التى كانت ترفض هذا المشروع على قلب رجل واحد ، ولكنه يضيف إلى رصيد الوطن ، ويحقق الرغبة الوطنية باللجوء إلى الجمعية العمومية التى كان مقطوعاً سلفاً بحكم تشكيلها أنها سوف ترفض المشروع ـ وقد كان !
إذن !
لم يكن رأى الحكومة الذى أبداه سعد زغلول بجلسة الجمعية العمومية 7 فبراير1910 قبيل اغتيال بطرس باشا غالى بأيام ، هو واقع رأيه وموقفه من المشروع ، وإنما هو عظيم ضحى فى موقف ( ظاهرى ) يسحب من رصيده أمام الأمة ليحقق لها وللوطن ما تريده !
هذا الموقف الفريد يستحضر صور أمراض المظهرية والاستعراض التى تعطى ظهرها
للواقع الحقيقى الفاعل ، وتستقرب رضاءات مخدوعة ، لعلها كانت فى وجدان العقاد حين قال أثيرته : « إذا أحبك الناس مخدوعين فلا تفـرح ، وإذا كرهـك الناس مخدوعين فلا تحــزن ! .. بعض الكراهات خير لك من بعض المحبات » !