بين القانون والأدب

كتبه: محمود طاهر المحامي

تجاور محمد حسين هيكل وعبد العزيز فهمى وعبد الحميد بدوى وعبد العزيز البشرى لصياغة دستور 1923… وقد كان دستور 1923 من أجود الدساتير المصرية صياغة،، لذلك فإن القانون لا تكون له لغة الا حين يكون المؤلفون من أدباء المشرعين، فلا التشريع تشريع أن لم يكن القائمين عليه أرباب أدب وهو ما عبر عنه زكى مبارك بقوله ” ما جاز لمشرع أن يوازن بين لفظ ولفظ وبين عبارة وعبارة إلا وهو مسير بقوة أدبية تدله على ما فى الألفاظ والعبارات من أعصاب وأحاسيس…”

ولأن السنهورى واضع القانون المدنى كان أديبا مجيدا لذا كانت صياغة القانون المدنى من أجود الصياغات القانونية بل إن قواعد صاغها زاع صيتها وانتشرت كانتشار أبيات الشعر والحكم ومثال ذلك :-
_ ليس لأحد النزول عن حريته الشخصية
_العقد شريعة المتعاقدين
_يفسر الشك فى مصلحة المدين
_لا يضمن البائع عيبا جرى العرف على التسامح فيه

**إلى آخره مما زاع واشتهر لحسن صياغته وسلاسة اسلوبه

فإذا ما انتهت صياغة القانون وتشريعه كان دور القاضى لإنزال أحكامه على وقائع الناس، ولابد كى يحسن عمله أن يكون القانون مَعينا يستقى منه فكره، وأن يجيد التعبير عن هذا الفكر بملكة إبداعية أدبية
ففى مقاله العلاقة بين الأدب والقانون المنشور بمجلة الهلال… قال المستشار وحيد رأفت : ” إن إحاطة القاضى باللغة والأدب وفن البيان والتعبير أمر لازم لزوم تمكنه من القانون ذاته……. وتحرير الأحكام القضائية فن لا يبلغ تمامه ما لم يكن لدى القاضى حصيلة كافية من الكلمات والمترادفات تسعفه باللفظ الذى يواتى المعنى المنشود دون زيادة أو نقصان ”
فالادب يقود القاضى إلى الإبداع والاجادة فينتقى اللفظ الوافى للمعنى المقصود دون إخلال، وليس الإبداع إيجاد الشئ من العدم، أو طمس القديم جملةً، إنما الإبداع وكما عبرت عنه المحكمة الدستورية العليا بقولها :-
” الإبداع ليس بالضرورة إحياء كاملا أو مبتدأ، ولا قفزا فى الفراغ، بل هو اتصال بما هو قائم إكمالا لمحتواه وانتقالا إلى آفاق أرحب”
(الدعوى رقم 2 لسنة 15 ق دستورية _جلسة 4_1_1997)

وعن المحاماة حدث ولا حرج فالعلاقة بين مرافعات المحامين وبين الأدب والبيان علاقة متصلة لا تنفك أبدا حتى أن طه حسين فى مقاله (بين الأدب والقانون، بمجلة الهلال يناير 1935) قال” إن مرافعات المحامين لأبلغ دليل على أن رجل القانون ليس مجرد كاتب شأنه شأن المؤرخ والسياسى إنما هو أديب.. فإن مرافعات المحامين خطابة وكتابة وإقناع للقضاة وتأثير فى نفوس السامعين، وهذا كله أدب من غير شك، وإن براعة المحامى تأتيه من الأدب أكثر مما تأتيه من القانون…. إن المحامى أديب حين يخاصم فيحسن الخصومة، وحين يكتب فيحسن الكتابة، وحين يبين فيحسن الكلام، وإن لم يضع قصة ولم يكن شاعرا ولا صاحب ترسل ”
وما كان لمحام أن ينطق بهذه العبارات التالية لو لم يكن ممتلكا لناصية الأدب والبيان إذ قال :
” لا أريد بالرحمة أن تتجاوزوا للمتهم عن شى مما يستحقه عدلآ – لانى لا أقول أن الرحمة فوق العدل …….. بل أقول أن الرحمة هى أقصى وأسمى مرتبة من مراتب العدل..فأنا أطلب العدل فى أرقى معانية وأسمى مراتبة”

ومن ثم فإن رجل القانون لا بد أن يكون أديبا إن أراد أن يحسن القيام بعمله كمشرع ابتداء وكمحام أو كقاض أو كعضو فى النيابة، وربما ذلك ما أراده دكتور محمد حسين هيكل فى مقاله (صلة الأدب بالقانون) حيث قال :” إن الأدب والقانون يعالجان فى الحقيقة موضوعا واحدا هو موضوع الحياة على اختلاف ألوانها وما يقع فيها وهما لذلك يتزاوجان فى شئون كثيرة تزاوجا يوجب على رجل القانون أن يلم بالأدب، وعلى الأديب أن يلم بالقانون”
وإن كان الأديب لا خسران عليه إن هو عزف عن القانون، وسيبقى أدبه قائما رغم هذا العزوف ، فإن رجل القانون خاسر لا محاله إن هو أغفل الأدب وباطل عمله سواء كان مشرعا يسن القوانين ويضعها أو شارحا يكتب عنها أو قاضيا يطبقها أو محاميا يتفاعل معها تفاعلا يحييها

ومن جميل القول قول غالب غانم القاضى اللبنانى و رئيس مجلس القضاء الأعلى بلبنان إذ قال ” عندما تابعت طريقى فى الحياة ممتطيا جوادين لا جوادا واحدا هما القانون والأدب، كان ذلك لأننى ابحث عن مهنة سيمتها رسولية هى مهنة المحاماة ثم مهنة القضاء… وأشعر أن كل منهما حياة للأخر (الأدب والقانون) فصورتهما فى ذهنى ارتسمت على هذا الشكل من نحو : نبض من القلب يحرك حشدا من العقل وسحر من اللغة يحتضن فيضا من الفكر،، ومن نحو آخر : أصول نظام تلجم انفلات حرية، وحبال واقع تشد شرود حلم… فلولا هذه المؤازرة لضعف اللونان، ولولا هذه المحاذرة لسقط الجوادان ”

فاجتهد أيها العامل فى محراب القانون جهدا يتكافئ مع عظيم الرسالة التى حُمْلتها ولا تضيع حظك من الأدب ومن العلم بالقانون وكن فى كليهما فذا متفوقا #طاهر
ولله در السنهورى إذ قال شعرا :
وإذا سألت عن الوليد أباه، لم يعوزه رد
ولدى هو القانون لم أرزقه الا بعد جهد

زر الذهاب إلى الأعلى