بين العدم والفناء والزوال

من تراب الطريق (1035)

بين العدم والفناء والزوال

نشر بجريدة المال الاثنين 8/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

مـا نسميـه نحـن البشر بالعدم والفناء والزوال مما نلاحظه جاريًا مطردًا في أنفسنا وفي بقية ما نسميه بالأحياء الأخرى ـــ فاصطلاح بشرى نسبى نتداوله في حياتنا نحن المحدودة الأمد.. عن أنفسنا وعن أشباهنا في الحيوان والنبات . ولم يمكن قط إلى يومنا هذا أن يندمج فكر البشرية بعامة، بل ولا بخاصة ـ مع نواميس وقوانين وأسس وحقائق الكون العظيم الذي لا نكاد نشغل إلاّ ذرة ضئيلة فيه . قد دخلنا بحكم الخليقة كمخلوقات فيه في زمن ما ـــ لا يمكن حصره بين الكثير من المخلوقات التي ليس لها حصر في هذا الكون الفسيح الهائل الرائع . فنحن على حالنا الراهن التطور ما زلنا إلى الأعماق ـ أبناء بشريتنا الممتدة من ماضٍ بعيد سحيق في نظرنا إلى حاضر لم يكد يتغير جوهره.. محتاج أشد الحاجة إلى مزيد ضخم بالغ الضخامة من العناية والتغيير فيما نزهو به الآن مما أطلقنا عليه اصطلاح العلم الوضعي.. هذا العلم الذي ما زال غارقًا في أغوار بشريته عاجزًا عجزًا يكاد يكون عامًا عن القدرة على انتفاضه كليةً حقيقية تنقله إلى غير رجعة من ماضيه أو حاضره السطحي التائه الذي يتخبط في الأوهام والأحلام والأماني والآلام والأحزان والفواجع والنكبات والويلات والاختفاء والانقراض ـ إلى حياة جادة عميقة شاملة تنسى تمامًا العبث والهوى والحسد والغل والتآمر والطمع والجشع والذل والإذعان !!!

وليس الصغر أصلاً ونبعًا في ذاته للنقائص والحماقات والآفات والشرور.. فهو بدايات فطرية للنمو والاكتمال والرشد.. وتعرضه للتشويه والانحراف آفة مجتمعية.. منحرفًا كان أو مقصرًا.. وكل من الانحراف أو القصور ـــ غفلة واستهانة ومجازفة وخيبة تعقبه الحسرة ثم الانكسار فالهلاك.. حدث ذلك في دهور تمر ويبتلعها الزمن وينساها كأنها لم تحدث قط لجماعات بشرية بادت ولم يعد يذكرها آدمي حىّ.. يمارسها من بعدهم آدميون أحياء كأنهم هم مبتدعوها أو لم يسبقهم سابق.. قد نسوا السابق وكأنه لم يوجد !.. وهذا بلاؤنا الأخير الذي يوقف تناسلنا نهائيا ويخفي وينهى وجودنا على الأرض لانتهاء أمد حقنا في فرص الحياة ـــ جميعًا بلا استثناء !

وبقاء الأنا التي يكررها لنفسه كل آدمي صغيرًا أو كبيرًا إبان عمره ــ إشعار دائم بالاستقلال الملازم لكل فرد من الأحياء إبان حياته.. قصرت أو طالت هذه الحياة في الجماعة التي ينتمى إليها الفرد بالأصالة أو النسب أو الاختيار أو القدم.. وقد فطن ضمير الآدمي المتكلم من أول الدهر ـــ إلى لزوم ضمير المخاطب والغائب.. أي إلى ضرورة الحاجة الدائمة لاتصال الأنا بالآخرين حاضرين وغائبين قريبين أو بعيدين مذكورين أو يمكن تذكرهم أو ذكراهم على نحو ما.. لأن حياة الآدمي قديمًا كان أو حديثًا.. بدائيًا أو متقدمًا أو متطورًا ــ يستحيل أن تتم إذا انفرد مع نفسه بلا رفيق دون الانتماء على نحو أو صورة إلى آدمي آخر أو آخرين في جماعة بشرية من الأحياء صغيرة أو كبيرة.. هو يحتاج إلى ذلك في صغره أو في كبره.. في جده أو لهوه.. ذلك أن انقطاع الآدمي عن الاتصال بآخر أو آخرين مُحال

المُحال.. لأنه لا يستغنى عن حاجته أو اختياره أو اعتماده على فرد آخر من جماعة بشرية تُتيح له ذلك.. لا يمكن لأي حىّ أن يبقى وحيدًا فردًا بلا أصل سابق وماضٍ سالف وحاضر معاش ومستقبل لاحق.. حتى في الحيوان أو النبات.. بالغًا ما بلغ من الضآلة والهوان أو ممتدًا إلى أبعد ما وصل إليه من القدرة والاستطاعة.. علما بأن وجود القوى والطاقات والماديات والأحياء في الكون العظيم دائمًا كثرة تتعاقب آحادها وجماعاتها بأطرها وأحجامها وأعمارها وأسرارها ولا تنتهي.. وإنما يطرأ عليها تغير الأحوال والتراكيب والظواهر.. وما يتوقع البشر حصوله أقل بكثير جدًّا مما لا ينتظره ولا يمكن أن يعرفه الآدمي ــ إن عرفه ! ــ إلاّ بعد حصوله بأزمنة مختلفة، وقد يمضى به العمر ويدركه الفناء دون أن يعرف من أمره شيئًا !!

والأنا مهما تواضعت وتطامنت ــ هي أغلى ما لدى الآدمي.. بل هي نفسه وذاته المدركة وغير الكاملة الإدراك.. كلها تجمع غرائزه واستعداداته وخصاله ومواهبه إن وجدت وعيوبه إن ولد بها أو التصقـت بـه بعـد ميلاده في حياته إلى أن يفارقها.. وهي جماع وسر كل آدمي في كل زمان ومكان.. لا يستطيع أن يخلعها أو يتجاهلها مهما تكلف واجتهد في التكلّف.. ولأنه هو لم يصنعها فإنه لا يشاركه فيها آخر.. إذ هو بها وحدها يحب أو يكره، ويقترب من غيره أو يبتعد، ويجهل أو يعلم، ويشعر بها في يقظته ونومه وطفولته ونضجه واكتماله ونقصه وصحته ومرضه.. وكثيرًا أو قليلا ما يحس بما هو عليه فعلاً من ذكاء أو غباوة . فالأنا البشرية مخلوقة من مخلوقات الله ــ عز وجل ــ الذي يعلم وحده السر وما أخفي.. سبحانه القائل في محكم تنزيله: « وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ » ( الذاريات 21 ).. هذه النفس هي محك اختبار وحساب الآدمي.. إليها يرتد ما يفعله من خير أو شر، تترقب ــ إِن رشدت ـــ مستجيبة لخالقها الذي خلقها وسواها، يحدوها أمل لا ينقطع أن يكون رصيدها مما قال سبحانه وتعالى فيه: « وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » ( البقرة 110 ) صدق الله العظيم .

زر الذهاب إلى الأعلى