بين الطبع والتطبع !
من تراب الطريق (1078)
بين الطبع والتطبع !
نشر بجريدة المال الخميس 8/4/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
هل الهدوء طبع أم سليقة أم حالة أم ماذا ؟! ما الذى به يكون الهادئ هادئا ؟ بالتأكيد هذه الحالة ليست الغباوة أو بلادة الحس، وليست ما يسمى بضبط النفس أو السيطرة على الأعصاب.. وإنما هي ترجع إلى هدوء عمل العقل واتزانه، والاعتياد على استعماله والاحتكام إليه في رؤية الأمور كبيرها وصغيرها والتعامل معها.. وممارسة الآدمي حياته وشئونها بتفاصيلها وأحوالها من منظور العقل.. في ترتيب وتتابع لا يختل بنزوات أو شطحات العاطفة، وقبول النتائج بتسليم داخلي خالٍ من التكلف أو المجهود.
وهذا الهدوء طبيعي يولد به صاحبه، وقلما ينجح غيره في تحقيقه كاملاً بالتدريب والاكتساب.. وهو يوجد في الأميين وغير الأميين، لأنه من توابع قوة الطاقة العقلية وتفوقها على الطاقة العاطفية.. ولذلك لا يحتاج من صاحبه إلى تعمد الانضباط والكبح وكبت العاطفة الغضبية.. وهو لا يفارق صاحبه في أية مناسبة مهما كانت مثيرة للانفعال أو الغضب أو الثورة لدى العاديين من الناس !
ولأن هذه الطبيعة قوة في الطاقة العقلية فقط ـ فإنها لا تستلزم أن تصاحبها عواطف معينة.. فقد يوجد هدوء الطبع مع الرحمة ومـع القسوة، ومع الخير ومع الشر، ومع العدل ومع الظلم.. ويشاهد لدى الطيب الأمين الصادق، ولدى الداهية والخبّ والخبيث، كما يوجد في كل مراحل العمر من الصغر إلى الكبر، وقد يوجد لدى الإناث كما يوجد لدى الذكور.
وفرص النفوذ والمكانة لصاحب هذا الهدوء واسعة.. لأنه يلفت إليه الأنظار بثباته في مواجهة الأحداث والمواقف والأشخاص، وبقدرته على إصابة وتحقيق ما يريده بخطوات محسوبة دون أن يجد نفسه مضطراً للرجوع عن تصرف اندفع أو انساق إليه بثورة أو غضب أو اندفاع أو نتيجة نزوة أو ثائرة كما يحدث للعاديين من الخلق.
والسؤال: هل تنعدم الفرصة لدى غير المطبوع في اكتساب الهدوء أو استحضاره لضبط النفس والأعصاب من ردود الفعل الانفعالية أو الغاضبة ؟! يقال في الأمثال الدارجة إن الطبع يغلب التطبع، وهذا في ظني صحيح، ولكنه لا يصادر المجاهدة والترويض الداخلي بالعزم والمران واستحضار العقل كلما تهدد رد الفعل السريع بالخروج عن حكمته وعقله للأمور.. وقد يصح الاستشهاد على إمكان ذلك بخاصية الصبر.. فالصبر وإن كان خصلة في الطبع، إلاّ أنه قابل للاكتساب بالترويض والمجاهدة والمجالدة.. بل إن التقليد أحد مصادر إنماء الصفات المكتسبة، وتحدث المجاهدة أو المحاكاة المقصودة بهداية العقل نفسه، وهذا يعيدنا إليه، لنرى أنه في الواقع هو باب الحكمة والهدوء والتفكير والروية، والاحتكام إليه هو الأمان الحقيقي للتعامل مع شئون الحياة وتقلبات ومفاجآت المواقف وشطحات العواطف وثورات النوازع والنزوات..
فالعقل في مدلول لفظه العام، وكما قال العقاد، ملكة يناط بها الوازع الأخلاقي أو المنع عن المحظور والمنكر، ومن هنا كان اشتقاقه من مـادة « عقل » التي يؤخذ منها العقال، وتكاد شهرة العقل بهذه التسمية أن تتوارد في اللغات الإنسانية الكبرى… فكلمة mind الإنجليزية وما خرج من مادتها في اللغات الجرمانية تفيد معنى الاحتراس والمبالاة، وينادى بها الغافل الذي يحتاج إلى التنبيه.. ومن خصائص هذا العقل ملكة الحكمة وإدراك الصواب.. ومن محاسن القرآن الحكيم أنه لا يذكر العقل إلاّ في مقام التعظيم ووجوب العمل به والرجوع إليه، وكثيرا ما تستدعيه الآيات القرآنية على سبيل التقريع أو التذكير أو التنبيه، مـن مثل: « أفـلا تعقلون ؟! »، « لآيات لقوم يعقلون »، « كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون »، ومثل: « وما يعقلها إلاّ العالمون »، ومثل: « لعلكم تعقلون ».
العقل هو إذن هادى الآدمي ودليله ومرشده، وهو أيضا صمامه ووازعه، وباب الحكمة وإدراك الصواب، يسرى ذلك على العقل الجمعي مثلما يسرى على عقول الأفراد، إليه مناط كل شيء طيب لمن ينشدون الحق والصواب.