بين التدين والتصنع !

بين التدين والتصنع !

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 29/5/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

فارق بين التدين، وبين اصطناعه أو اصطناع العلم بالدين ! لا تدهش من التعبير، فقد يغلب على رجل الدين مفهوم الصناعة، كصناعة الخزّاف أو الزجّاج أو النجّار حين يفقد إحساسه الداخلي العميق بالدين، ويتعامل معه على أنه محض مادة علمية للدراسة أو للتفقه أو للاتشاح بها طلباً لمكانة العلماء، أو صيت وقبول الدعاة، أو كرامة الأولياء !

لفتني الاقتراب من المتدينين البسطاء بلا تصنع، ومن متصنعي العلم بالدين ومن مسيّسي الدين، أن بين بسطاء المتدينين صفاء وسماحة وامتزاجًا بالدين وتخلقًا بشمائله وسجاياه، لم أجده في بعض من يدعون العلم بالدين أو الساسة الذين يتخذونه « قنطرة » إلى منصة الحكم.. يتترسون بالدين، وقد لا تنطبع به نفوسهم ولا تلتزم به مسالكهم وتصرفاتهم !

شتّان بين شخص استقر الدين في أعماق نفسه فملأ حناياه وصفحة وجدانه وضميره، وبين احتراف علم أو تفقه فاقد للروح مشغول بالتقعيد والتنظير، وبالتفاصح والتفلسف، وربما باصطناع الحكمة والموعظة، دون أن يحس بروح ما يشغل حياته ومسالكه ودروبه به، لأنه مصروف بالمظهر عن الإمساك بالجوهر، وبمكانة امتلاك العلم عن جمال تمثل روح الدين والتطبع به وبخصاله وأخلاقه وسجاياه وشمائله !

المسلم الحقيقي، هو آية ورسالة الإسلام إلى الدنيا. هذا المسلم هو المسلم البسيط المتغلغل الإيمان.. قد لا يتسع علمه، ولكن يتسع فهمه لنقاء العقيدة والإحساس الصافي بمعنى وروح وجوهر الدين. آيته سماحته وبساطته وصدقه وإخلاصه وأمانته وتواضعه وعمله وتفانيه ووقاره.

صادفني في الحياة من يدعون العلم بالدين، بينما هم من أكثر الناس بعدًا عن تمثل معانيه والتخلق بسماحته، وأكثرهم إغراقًا في النفاق والرياء والوصولية والانتهازية والحقد والغل والحسد وسواد القلب والضمير !

ظني أن المظهرية قد شغلت معظم الناس عن المضمون والجوهر، فغرقت في ذلك سلوكياتنا، مثلما غرقت أساليب الدعوة في القضايا الشكلية المثارة.. في هذا الزقاق انحسرت وتوارت دون أن ندرى صورة الإسلام الصحيحة، وغابت عن باطن الناس فتعلقت تصرفاتهم بالمظاهر والأشكال والأزياء.. وانصرفت أو انشغلت بها عن عمار النفوس وتعميق الداخل بقيم وجوهر الدين. لو تمثلنا الدين في داخلنا وطبعْنا به نسيجنا والتزمناه حقيقةً لا شكلاً، لحسنت أحوالنا، ولما شابت صورة المسلمين في نظر العالم ما علق بها من شطحات المتطرفين أو أوشاب المتنطعين. المسلم الحقيقي يفزع من قطرة دماء تسيل بغير حق، ويأسى لترويع الناس، ويتذوق الحياة في لمسة وفاء أو نفحة عطاء أو تسرية رحيمة أو تعاطف حنون أو عمل طيب يساهم به في عمار الحياة !

الشطحات الشاذة التي نراها من التطرفين، أو من الإرهابيين ودعاة الإرهاب، لا تأتى من الفهم البسيط الحقيقي للدين، فبين البساطة والحقيقة قرابة وامتزاج، فالحقيقة بسيطة أبسط ما تكون، والبساطة تلتقي بالحقيقة حالة كونها مستقيمة متجردة من الأغراض التي تأخذ الناس إلى حيث تريد هذه الأغراض. الضلال هو حصاد الافتعال والتصنع، والغلو والمغالاة والتنطع.. في حياتنا مسلمون بسطاء، وأيضًا علماء بسطاء.. تبلور علمهم العريض، إلى شحنة وهّاجة معطاءة بذاتها من النورانيات، ومن البساطة، لمستُ هذا بقوة في المرحوم الشيخ أحمد حسن الباقوري وأحاديثه العميقة الطلية، ولمستُه بقوة في الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي هذا العبد الرباني الذي يفيض تواضعًا ورقة إنسانية، يلمسها منه البسطاء قبل العظماء، مثلما لمستُه في الشيخ الدكتور محمود حمدي رزق المجدول بالدماثة والعمق والبساطة، وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، الإمام المجدد، صاحب النظر العميق، والصفاء الصوفي، الذي حمل مسئوليات الأزهر في بساطة ودماثة تقطران حكمة ورشادًا.. تزداد معرفةً بهم، وحبًّا لهم، كلما اقتربت، فتطالعك السماحة والصفاء، وعمق الإيمان الممتزج بالدين، وفي التخلق بشمائله، امتلكوا العلم، مجدولاً فيه جمال تمثل روح الدين والتطبع به وبسجاياه وأخلاقه. وشمائله، فعاشوا في قلوب الناس.

زر الذهاب إلى الأعلى