بين الأدب والقانون.. تسجيل التحقيقات الجنائية
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
«عدالة وفن» مجموعة قصص قصيرة للكاتب الكبير والأديب الراحل توفيق الحكيم، يعود تاريخها إلى العام 1953م. ومن المعلوم أن الكاتب الكبير قد عمل في بداية حياته وكيلاً للنائب العام وفي سلك القضاء، قبل أن يتقدم باستقالته من العمل بالقضاء وينتقل للعمل مفتشاً للتحقيقات بوزارة المعارف.
وفي هذه المجموعة القصصية، يتناول الكاتب الكبير بعضاً من المواقف التي مر بها أثناء عمله في النيابة العامة. وإحدى هذه القصص تحمل عنوان «رجل المال». وتحكي هذه القصة واقعة اتهام أحد الأشخاص بتبديد مبلغ خمسة آلاف جنيه تسلمها من أحد الباشوات، بصفته وكيل دائرته، لينفقها في أعمال الزراعة وأجور الأنفار.
وقبل أن يقوم كاتبنا الكبير بالتحقيق في هذه القضية، بادره المتهم شاكياً تعرضه للضرب في مركز الشرطة.
وبالنظر لأن الضرب لم يترك أي إصابات أو آثاراً على جسم المتهم، لذا لم ير وكيل النائب العام من المجدي أو النافع فتح باب التحقيق في الإهانة أو الضرب، مبرراً ذلك بأن مثل هذا التحقيق لا يؤدي إلى نتيجة، ما دام الضرب لم يثبت بإصابات ظاهرة، والبوليس خير من يعرف ذلك، وله طريقته فيما يسميه الضرب «الكتيمي»، وأصبح من المتعارف عليه أن هذا يحدث، وأصبح من حقوق البوليس، ما دام يتم في الحدود التي تكفل السرية التامة.
وإذا كان الكاتب الكبير لم ير مجدياً فتح باب التحقيق، إلا أنه تنبأ بأحد الإصلاحات التشريعية التي لم تعرفها القوانين الإجرائية إلا مؤخراً. إذ يشير إلى أنه قال مازحاً ذات مرة لمأمور بوليس: «سيأتي يوم يحدث فيه تحقيق البوليس بواسطة آلات تسجيل الصوت.. وعندئذ تستطيع النيابة أن تعرف ما الذي قيل وحدث بالضبط وقت التحقيق». فقال المأمور الظريف على الفور بكل صراحة: «يا خبر!.. ونضرب المتهمين إزاي؟».
ومن ناحية أخرى، وفي الثاني والعشرين من شهر يونيو سنة 1991م، خرج إلى النور الفيلم العربي اللعب مع الكبار، والذي تم عرضه لأول مرة في هذا التاريخ. وهذا الفيلم من تأليف الكاتب الكبير الراحل وحيد حامد، وإخراج شريف عرفة، وبطولة عادل إمام وحسين فهمي ومحمود الجندي وعايدة رياض.
وتدور أحداث الفيلم حول حسن بهنسي بهلول (عادل إمام) كنموذج للإنسان البسيط الذي أجبرته ظروف الحياة على أن يعيش حالة البطالة، فهو لا يعمل ولا يستطيع حتى الزواج من خطيبته، ويحاول أن يعيش حياته معتمداً على قدراته وخبراته في الحياة. ويقيم مع والده الحلاق، ولكن لا يرغب بالعمل معه. ومع أن واقعه مظلم، وآماله محطمة، إلا أنه يملك قدراً كبيراً من الحب والوطنية والإحساس بالمسئولية تجاه وطنه. ويتجلى ذلك عندما يجري حسن اتصالاً بجهاز أمن الدولة، ويتحدث إلى الضابط معتصم الألفي (حسين فهمي)، ليبلغه عن توقيت حريق سيحدث في أحد المصانع في اليوم التالي. وعندما يسأله الضابط عن كيفية معرفته بذلك، يبلغه حسن بأنه شاهد الحادث في الحلم، وبالفعل يقع الحادث، لتبدأ علاقة من نوع خاص بين حسن والضابط.
وإذا كان حسن قد أخبر الضابط بأنه رأى الحادث في الحلم، فإن الحقيقة هي أنه علم أمر هذه الجريمة وغيرها من الجرائم عن طريق صديقه (علي الزهار) الذي يعمل بمصلحة التليفونات، والذي يتنصت على مكالمات خطيرة تهدد أمن البلد، ولا يريد (حسن) إفشاء سر صديقه. ورغم الضغط عليه لإفشاء مصدر معلوماته الحقيقي، إلا أنه لا يلين ولا يفشي السر، ويواصل (حسن) و(علي) خطتهما لكشف الكبار واللعب معهم أو ضدهم بمعنى أصح في لعبة الفساد، ولكن أحد العتاة الضالعين في تجارة الهيروين يتعقب (حسن) و(علي)، ويفشل الضابط (معتصم) في حماية (علي الزهار) من أن يُقتل داخل السنترال الذي يعمل به، ويعلن له (حسن) في ثورة غضب على التليفون أن (علي الزهار) قد مات. وفي أحد مشاهد هذا الفيلم، وبعد القبض على شخصين بتهمة حرق المصنع، يتم التحقيق معهما في قسم الشرطة. وفي لحظة الانتهاء من التحقيق، يدخل المقدم معتصم الألفي وحسن بهنسي إلى الغرفة التي يتم فيها التحقيق، حيث يوجد ما يشبه استديو التصوير التليفزيوني، ويسمع الاثنان العبارة الآتية:
«نشكركم سيداتي آنساتي سادتي، وننتهي بغلق التحقيق في قضية حريق المصنع». وهنا، يتساءل حسن بهنسي عما إذا كان التليفزيون يقوم بتصوير التحقيق. ويرد المقدم معتصم الألفي على هذا التساؤل: «أي استجواب عندنا يتم بالصوت والصورة، علشان ما حدش يخرج يقول إني اتعذبت أو اعترفت تحت إكراه». وهنا يقول حسن بهنسي: «ممكن المتهم يدخل أي أودة، يأخذ الطريحة المضبوطة، ويعمل ماكياج ويقف أمام الكاميرا مبتسماً».
ورداً على ذلك، يقول المقدم معتصم الألفي: فيه بعد كده النيابة يا حسن، ولا أنت فاكر الحكاية جهجاهون. وهنا يتمتم حسن، قائلاً: «النيابة.. آه».
ومن ناحية ثالثة، وفي يوم الجمعة الموافق السابع والعشرين من مايو 2022م، وفي بوست منشور على صفحته على شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك، يقول الأستاذ الدكتور محمود كبيش، أستاذ القانون الجنائي بكلية الحقوق جامعة القاهرة وعميد الكلية الأسبق: «كم أتمنى: أتمنى من كل قلبي أنه عند ضبط أي جريمة.. بصفة خاصة جرائم حيازة سلاح بدون ترخيص أو جرائم المخدرات أو جرائم الإتجار في العملة… أن يتولى أحد القائمين على الضبط تصوير الواقعة بالڤيديو.. وهو أمر ميسر للغاية (فجميعهم يحوزون موبيلات بها خاصية التسجيل) …. ويا ريت يكون هذا الإجراء وجوبي …إذ بذلك يتم توثيق الجريمة حال ارتكابها وظروف ضبطها بطريقة رسمية… وبالتالي لا ندع فرصة للدفاع عن المتهمين للجدل بشأن واقعة الضبط وظروفها… ذلك كله لضمان عدم إفلات المجرمين من العقاب».
والواقع أن ما تنبأ به الكاتب الكبير توفيق الحكيم منذ أكثر نصف قرن، وشاهدناه في فيلم «اللعب مع الكبار»، لم تعرفه التشريعات الجنائية إلا مؤخراً.
بيان ذلك أن القانون الفرنسي لم يعرف التسجيل الصوتي المرئي لإجراءات التحقيق سوى في العام 2007م، وذلك بموجب القانون رقم 291-2007 الصادر في الخامس من مارس 2007 بشأن تعزيز التوازن في الإجراءات الجنائية، والذي أضاف مادة جديدة إلى قانون الإجراءات الجنائية، تحت رقم 116-1، وتنص على أنه «في القضايا الجنائية، يتم التسجيل السمعي البصري للتحقيق واستجواب الأشخاص قيد التحقيق في مكتب قاضي التحقيق، بما في ذلك فحص أول ظهور ومواجهة. ولا يجوز الاطلاع على التسجيل أثناء التحقيق أو أمام المحكمة إلا في حالة نشوء نزاع بشأن مضمون الإفادات التي تم الحصول عليها، وذلك بقرار من قاضي التحقيق أو المحكمة الابتدائية، بناء على طلب من النيابة العامة أو أحد الطرفين. ولا تنطبق الفقرات الثماني الأخيرة من المادة 114. وعندما يطلب أحد الأطراف الاطلاع على التسجيل، يقدم طلباً بذلك، ويقرر قاضي التحقيق بشأن هذا الطلب وفقا للفقرتين الأوليين من المادة 82-1.
ويعاقب كل من ينشر تسجيلاً تم وفقاً لهذه المادة بالسجن لمدة سنة وبغرامة قدرها 000 15 يورو. وعند مرور فترة خمس سنوات من تاريخ انقضاء الدعوى العمومية، يتم إتلاف التسجيل في غضون شهر واحد. وفي الحالات التي يحول فيها عدد الأشخاص الخاضعين للتحقيق والتي يتعين فحصها في آن واحد أثناء نفس الإجراءات أو في إجراءات منفصلة دون تسجيل جميع الاستجوابات، يقرر قاضي التحقيق، في ضوء متطلبات التحقيق، الاستجوابات التي لن يتم تسجيلها. وفي الحالات التي لا يمكن فيها التسجيل بسبب استحالة فنية، يجب أن يحدد محضر التحقيق طبيعة الاستحالة.
ولا تنطبق هذه المادة إذا كانت المعلومات تتعلق بجريمة مذكورة في المادة 706-73 من هذا القانون أو منصوص عليها في المادتين الأولى والثانية من الكتاب الرابع من قانون العقوبات، ما لم يقرر قاضي التحقيق تسجيل الاستجواب. ويحدد المرسوم، حسب الاقتضاء، القواعد التفصيلية لتطبيق هذه المادة».
وفي مملكة البحرين الشقيقة، استحدث المشرع إجراء التسجيل الصوتي المرئي للتحقيقات الجنائية، وذلك بمقتضى المرسوم رقم 53 لسنة 2012م بتعديل بعض أحكام قانون الإجراءات الجنائية لعام 2002م.
إذ أضاف هذا المرسوم فقرة ثالثة إلى المادة الثانية والثمانين من قانون الإجراءات الجنائية، يجري نصها على النحو التالي: «ومع ذلك يجوز للنيابة العامة تسجيل كافة وقائع ومجريات التحقيق صوتياً ومرئياً بما في ذلك استجواب المتهم وشهادة الشهود، ولها إن تعذر حضور شاهد أو توافرت بشأنه ظروف توجب حمايته لاعتبارات تقدرها، أن تلجأ إلى استعمال وسائل التقنية الحديثة في سماع وتسجيل شهادته».
أما النظام القانوني المصري، فقد ظل خلواً من هذا الإجراء حتى تاريخ كتابة هذه السطور. ولم ينتبه المشرع المصري إلى هذا الإجراء إلا في مشروع قانون الإجراءات الجنائية الذي قامت بإعداده اللجنة العليا للإصلاح التشريعي، وجري النقاش والحوار المجتمعي حوله مؤخراً، ولكن لم ير النور حتى تاريخه.
إذ يتضمن المشرع إضافة مادة جديدة إلى قانون الإجراءات الجنائية، تحت رقم 365 مكرراً (أ)، تنص على أن «يلتزم المحقق بتسجيل أقوال الطفل المجني عليه سمعياً وبصرياً، ويجوز أن يكون التسجيل سمعياً فقط، بناء على طلب الطفل أو الشخص الذي يحضر من ذويه، ويحفظ هذا التسجيل بواسطة أسطوانة مدمجة تودع ملف القضية».
وهكذا، كان توفيق الحكيم سابقاً عصره وزمانه عندما تنبأ بالتسجيل الصوتي للتحقيقات الجنائية، ولكن، ورغم أن الفكرة نشأت في أرض مصر الطيبة على يد أحد أدباءها الكبار، فإن المشرع المصري لم يقرر التسجيل الصوتي المرئي للتحقيقات الجنائية حتى تاريخه، على الرغم من أن العديد من التشريعات الأجنبية والعربية أخذت زمام المبادرة في هذا الصدد. وعلى كل حال، نتمنى أن يجد النص الوارد في مشروع قانون الإجراءات الجنائية المصري لعام 2017 سبيله إلى الإقرار النهائي، حتى نلحق بركاب الدول التي سبقتنا في هذا الصدد.