بين اعتبارات المواءمة والعدالة

تعليق على حكم المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية عجز المادة 110 مرافعات

بقلم: الأستاذ الدكتور/ فرج محمد علي
المحامي بالنقض والإدارية العليا – مدرس قانون المرافعات

أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمًا مهمًا في الطعن رقم 2 لسنة 45 قضائية، قضت فيه بعدم دستورية الفقرة الأخيرة من المادة (110) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، وذلك فيما يتعلق بإلزام المحكمة المحال إليها الدعوى بنظرها والفصل فيها، حتى في الحالات التي يتبين لها فيها عدم اختصاصها الولائي.

وقد أسست المحكمة قضاءها على أن الدستور قد حدد الجهات القضائية وحدد اختصاصاتها من خلال توزيع الولاية بينها، بما يحول دون تنازعها فيما بينها أو إقحام إحداها فيما تتولاه الأخرى، وبما يكفل دومًا عدم عزلها جميعًا عن نظر خصومة بعينها. وعلى ذلك، فإن جهات القضاء مستقلة عن بعضها البعض، ومؤدى هذا الاستقلال أن تختص كل جهة وظيفيًا بغير ما تختص به الأخرى.

ولما كان النص المطعون عليه قد ألزم المحكمة المحال إليها الدعوى بالفصل فيها، ولو تبين لها أنها غير مختصة ولائيًا طبقًا للاختصاص الذي حدده الدستور، فإنه يكون قد خالف النصوص الدستورية التي أفردت لكل جهة قضائية اختصاصاتها، واعتُبر ذلك عصفًا بحق التقاضي من خلال فرض قاضٍ لا يُعد، بحسب الدستور، القاضي الطبيعي للمنازعة. كما أنه يمثل تدخلًا في شؤون السلطة القضائية، ولا يُحقق المحاكمة المنصفة وفق متطلباتها، ويشكل تسليطًا لجهة قضاء على أخرى، بإلزامها بالفصل في نزاع يخرج عن ولايتها وتطبيق تشريعات لا تختص بها وظيفيًا. وهو ما يجعل من محكمة الإحالة محكمة تنازع، معادلة لقضاء المحكمة الدستورية العليا، التي وحدها يخول لها الدستور هذا الدور، مما يُصم النص بعدم الدستورية.

وفي هذا السياق، يوضح الأستاذ الدكتور/ فرج محمد علي أن الحكم يثير عددًا من الإشكاليات القانونية والعملية، أبرزها:

إلغاء التزام المحكمة المحال إليها بالفصل في النزاع، ومنحها الحق في إعادة النظر في مسألة اختصاصها، حتى وإن كان هناك حكم إحالة، وإن اقتصر ذلك على مسألة الاختصاص الولائي بين جهات القضاء المختلفة.

الفصل في مسألة الاختصاص يُعد أمرًا أوليًا قبل التطرق لموضوع الدعوى، وحكم المحكمة المحيلة بعدم اختصاصها لا يمس اختصاص المحكمة الدستورية العليا في الفصل في تنازع الاختصاص بين جهات القضاء، لأن الأول قابل للمراجعة والطعن عند مخالفته للقانون.

توجد مبادئ عامة تحكم القانون، أبرزها العدالة الناجزة وسرعة الفصل في المنازعات. ورغم أن الحكم الدستوري رجّح كفة العدالة وتنظيم الاختصاص، إلا أن ذلك جاء على حساب المواءمة وسرعة الفصل، حيث يُحتمل أن تتوالى أحكام بعدم الاختصاص وتتعرّض للطعن، ما يطيل أمد القضية لسنوات، في حين كانت محكمة الإحالة ملزمة بالفصل، ويتم تناول موضوع النزاع مبكرًا.

من وجهة نظر الكاتب، فإن التزام المحكمة المحال إليها بالفصل له سندان: أولهما حجية حكم الإحالة النهائي، والثاني هو الفقرة الأخيرة من المادة 110 من قانون المرافعات. وبالتالي، فإن إلغاء الثانية لا ينفي حجية الأولى، التي تظل قائمة وفقًا لمبدأ علو حجية الأحكام على النظام العام.

الواقع العملي يشهد بأن المحاكم تفصل في المنازعات رغم وجود قصور في بعض أحكام الإحالة، حرصًا على سرعة الفصل ووصول الحقوق لأصحابها، وكثيرًا ما تتضمن الأحكام عبارة: “بصرف النظر عن صحة الحكم بالإحالة، فإن المحكمة تمضي في نظر الموضوع”، في إعلاء واضح لمبدأ سرعة الفصل وتقليل الهدر في الوقت.

محاكم مجلس الدولة تخضع لنصوص قانون المرافعات باعتباره القانون العام الإجرائي، في ظل عدم وجود قانون إجرائي خاص بها. كما أن فلسفة المشرع في المادة 110 مرافعات – التي جعلها وجوبية بدلًا من جوازية كما في المادة 135 القديمة – تهدف إلى تسريع الفصل في المنازعات حتى بين جهات القضاء المختلفة.

جرى القضاء والفقه سابقًا على أن الإحالة وفق المادة 135 – وهي جوازية – لا تتم إلا بين محاكم الجهة القضائية الواحدة ومن طبقة واحدة. ثم صدر القانون رقم 100 لسنة 1962 وجعل الإحالة وجوبية داخل الجهة القضائية نفسها. ثم جاء قانون المرافعات رقم 13 لسنة 1968 وأقر وجوب الإحالة حتى بين جهات القضاء المختلفة. وقد أوضحت المذكرة الإيضاحية لهذا القانون أن المشرع استحدث هذا النص بهدف القضاء على فكرة استقلال الجهات القضائية بشكل يمنع الإحالة، باعتبار أن تطور القضاء ووحدته تحت سيادة الدولة لم يعد يسمح بهذه الفكرة.

وقد استقرت أحكام المحكمة الإدارية العليا على أن المشرع استهدف من الفقرة الثانية من المادة 110 حسم النزاعات وعدم تقاذفها بين المحاكم، وأن النص بصيغته الصريحة يمنع المحكمة المحال إليها الدعوى – بعد حكم بعدم الاختصاص الولائي من جهة القضاء العادي – من إعادة النظر في مسألة الاختصاص.

من المتوقع أن يؤدي إلغاء الفقرة الأخيرة إلى زيادة دعاوى التنازع السلبي والإيجابي بين جهات القضاء، مما يخلق إشكاليات جديدة كانت المادة محل الطعن تسعى إلى تلافيها.

ختامًا:
رغم قوة الحكم من حيث التأسيس الدستوري، فإن آثاره العملية تثير الكثير من الإشكالات التي تستدعي إعادة النظر في تنظيم العلاقة بين جهات القضاء المختلفة، بشكل يوازن بين العدالة كقيمة دستورية وسرعة التقاضي كضرورة عملية لحماية الحقوق.

زر الذهاب إلى الأعلى