قانون السرقة العائلية
بقلم الدكتور/ أحمد عبد الظاهر-أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
في الثامن عشر من شهر مارس 2021م، أصدرت “محكمة الاستئناف” في مملكة البحرين حكمها بتأييد حكم أول درجة بسجن المتهمة “منى السابر” والدة المطربة البحرينية الشابة “حلا الترك” لمدة سنةٍ واحدةٍ مع النفاذ؛ وذلك بناءً على الشكوى المقدمة ضدها من ابنتها المطربة المشهورة صغيرة السن بسرقة مبلغ مالي مقداره مائتي ألف دينار بحريني، أي ما يعادل 531 ألف دولار أمريكي.
وكانت الفنانة ذات الـتسعة عشر ربيعًا – وقت صدور الحكم- قد اتهمت والدتها بتبديد المبلغ على مدار الأعوام الماضية التي كانت فيها طفلةً تحت حضانة والدتها، في حين أكدت الأم أن ابنتها كانت تعلم بإنفاقها هذه الأموال، وأنها اضطرت للإنفاق من أموال ابنتها؛ لأنها لم تحصل على نفقتها الشرعية من طليقها، المنتج البحريني “محمد الترك”، لأكثر من عامٍ ونصف.
جدير بالذكر أن الأم كانت قد رفعت قضيةً سابقة ضد طليقها، تُطالب فيها بحضانة “حلا” عندما كانت طفلة، وحسمت المحكمة القضية لصالح الأم بحضانة أبنائها، قبل أن تقرر الصغيرة العيش مع والدها الذي تزوج من الفنانة المغربية “دينا بطمة”.
وعلى إثر صدور حكم الاستئناف بتأييد سجن الأم لمدة سنة مع النفاذ، نشرت المحكوم عليها مقطع فيديو عبر حسابها على موقع التواصل الاجتماعي «الإنستجرام»، أكدت خلاله أن الحكم صدر بشكلٍ نهائي ولا بد من تنفيذه، مبيّنة أنه ليس أمامها سوى تقديم التماسٍ للمحكمة لتغيير الحكم، وأنها ستلجأ لتقديم أحكامٍ بديلةٍ للمحكمة على أمل أن يتم الأخذ بها؛ كونها حاضنة لطفل ما زال في المدرسة ويحتاج لرعايتها.
واستطردت: «كنت أنتظر حكمًا مختلفًا عما صدر، لكنني صُدمت، والسبب في ذلك يعود إلى شهادة ابنتي الفنانة حلا الترك ضدي في المحكمة»، حتى انهارت مع إعلان صدور حكم الاستئناف بسجنها لمدة عام مع النفاذ، قائلةً «كنت أتمنى من ابنتي أن تقف وقفة حق، وأقول لها شكراً حلا على الهدية اللي أهديتني إياها بعيد الأم، وغدًا عندما تتزوجين وتنجبين أولادًا ستعرفين قيمة الأم، أقول لك يا حلا شكراً كثيرًا».
وتابعت الأم المحكوم عليها: «صدر حكم أول واستأنفت، واليوم صدر نفس الحكم في الاستئناف، ولم يغير شيئًا من الحكم»، لافتةً أنها لم تكن تتوقع أن تأتي ابنتها “حلا الترك” وتشهد ضدها في المحكمة، وذيّلت كلامها بتوجيه رسالةٍ إلى ابنتها: «أنا أعلم أن حلا عندها علم بالحكم، وأنا لم أكن أتوقع في المحكمة أن تقف ابنتي ضدي».
وقد أثار الحكم جدلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي – لاسيما وأنه قد صدر قبيل أيامٍ فقط من ذكرى عيد الأم” الذي يصادف الحادي والعشرين من مارس – وأصبحت القضية من القضايا التي تشغل الرأي العام بعدما نشرت الأم المحكوم عليها مقطع فيديو بكت فيه بسبب مقاضاة ابنتها لها، وبعد أن أشارت أكثر من مرةٍ أنها تعاني ظروفًا ماديةً صعبةً، وأنها تعجز في كثيرٍ من الأحيان عن دفع نفقات إيجار شقتها وتكاليف مدرسة ابنها.
وعقب صدور الحكم، اختلفت آراء مواقع التواصل الاجتماعي بشأن هذه القضية، فبعضهم تعاطف مع الأم ملقيًا اللوم على ابنتها، فيما اعتبر فريقٌ آخر أن “منى السابر” دفعت ثمن إهمالها لابنتها وتبذيرها لنقودها، فها هي أحد التغريدات تقول: «ابنة تسجن أمها لسببٍ تافه.. الفلوس تأتي وتذهب ولكن الأم لا تعوض.. هنالك من يتمنى أن يدفع كل ما يملك حتى تعود أمه إلى الحياة»، قبل أن تضيف: «قد تكون الابنة (حلا الترك) ضحية ولكن مكانة الأم لا خلاف عليها»، بينما قال مغردٌ آخر: «كارثة إنسانية أخلاقية اجتماعية مغايرة للفطرة الإسلامية وفي جميع الأعراف والديانات مهما كان ومهما يكن ومهما حصل ومهما يحصل لا يستساغ هذا الأمر أبدًا».
وفي تدوينةٍ لها على حسابها الشخصي على منصة التدوينات القصيرة «تويتر»، هاجمت الفنانة السعودية المعتزلة “سارة الغامدي” تصرُّف “حلا الترك” تجاه والدتها، حيث طالبت هيئة الترفيه بمنع نشاط “حلا الترك” الفني في السعودية بسبب تأثير عقوقها وتصرفاتها ضد والدتها على الأطفال والمراهقين، حيث انتقدت تصرفها تجاه أمها، قائلة: «حلا الترك الطفلة اللي كانت قبل سنوات تغني للأطفال ويشوفونها الأسر الخليجية والسعودية مثال أعلى لأبنائهم تصل لعمر الـ 19 وتعقّ والدتها وترفع عليها قضية وتبغي تسجنها بدعم من جدتها لأبوها.. أتمنى ما عاد نشوف وجهها في أي مهرجان أو حفلات بالسعودية».
وهكذا، وعلى إثر صدور الحكم، تصدّرت المطربة والممثلة البحرينية “حلا الترك” قائمة المحتويات الأكثر بحثًا على محرك البحث “جوجل”، وأثار الحكم غضب متابعيها وعدد من رود مواقع التواصل الاجتماعي معربين عن استيائهم من تصرف “حلا الترك” مع والدتها، وبمجرد أن تكتب اسم “حلا الترك” على محرك البحث جوجل، سوف تظهر لك النتائج الآتية: حلا الترك وأمها؛ حلا الترك تسجن أمها؛ حلا الترك ومنى السابر.
وعلى إثر صدور الحكم، عنونت إحدى الصحف الخليجية تناولها للقضية بالتالي: «تفاصيل صادمة.. حلا الترك تسجن والدتها»، واختارت إحدى الصحف المصرية عنواناً مشابهاً للخبر المنشور فيها عن القضية، وهو: «بعد إثارتها للجدل.. حلا الترك تسجن أمها لسببٍ صادم.. ومهددة بالطرد من السعودية»، وأضافت الصحيفة ذاتها أن «حلا الترك تتعرض لحملة مقاطعة قوية من جمهورها بعد حبس والدته».
وتعليقًا على هذه القضية، نود أن نشير بادئ ذي بدء إلى أن السرقة فعل مذموم أخلاقًا، محرم دينًا، مجرّم قانونًا، ولكن، في حالة السرقة بين الأصول والفروع أو بين الأزواج، فإن ثمة خصوصية أو ذاتية لهذا السلوك، منظورٌ في ذلك إلى أطرافه، أي الجاني والمجني عليه فيه، وقد اقتضت هذه الخصوصية أن تفرد التشريعات الجنائية العربية نصًا خاصًا للسرقة العائلية أو السرقة بين الأصول والفروع والسرقة بين الأزواج، وباستقرار خطة التشريعات العربية في هذا الشأن، يبدو سائغًا القول إن ثمة اتجاه تقليدي مهجور حاليًا، يقرر مانع عقاب في حالة السرقة العائلية، بينما يكاد ينعقد الإجماع التشريعي في الوقت الحالي على الاكتفاء فحسب بتعليق تحريك الدعوى الجنائية عن السرقة العائلية على شكوى المجني عليه.
وسنتناول فيما يلي هذين الاتجاهين تفصيلًا، وذلك في مطلبين، متبعين ذلك ببيان رأينا في هذا الشأن، وذلك من خلال تحبيذ اتجاه تقرير مانع عقاب في حالة السرقات العائلية، وهو ما نتناوله في مطالب ثلاثة، كما يلي:
المطلب الأول: اتجاه تقرير مانع عقاب في حالة السرقة العائلية.
المطلب الثاني: اتجاه تعليق تحريك الدعوى الجنائية عن السرقة العائلية على شكوى المجني عليه.
المطلب الثالث: تحبيذ اتجاه تقرير مانع عقاب في حالة السرقة العائلية.
المطلب الأول
اتجاه تقرير مانع عقاب في حالة السرقة العائلية
كانت المادة (312) من قانون العقوبات المصري – قبل تعديلها بالقانون رقم 64 لسنة 1947م – تنص على أن «لا يحكم بعقوبة ما على من يرتكب سرقة إضرارًا بزوجه أو بزوجته أو أصوله أو فروعه»، ولكن، وبموجب القانون رقم 64 لسنة 1947م، تم تعديل المادة المذكورة، حيث غدا نصُّها كما يلي: «لا تجوز محاكمة من يرتكب سرقة إضرارًاً بزوجه أو زوجته أو أصوله أو فروعه إلا بناءً على طلب المجني عليه، وللمجني عليه أن يتنازل عن دعواه بذلك في أيّة حالةٍ كانت عليها، كما له أن يوقف تنفيذ الحكم النهائي على الجاني في أي وقت شاء».
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون رقم (64) لسنة 1947م: «إن القانون القائم لا يعاقب من يرتكب سرقة إضرارًا بزوجه أو زوجته أو أصوله أو فروعه وأصل هذه المادة مأخوذ من القانون الفرنسي، وهذا قد نقله عن القانون الروماني، والأصل في عدم العقاب على مثل هذه السرقة عند الرومان أن الملكية بحسب قانونهم شائعة بين أفراد الأسرة الواحدة، فلم يكن من المتصور وقوع السرقة بين بعض أفراد الأسرة على بعض، ولكن الملكية لم تعد شائعة الآن بل أصبح لكل فردٍ حق الملكية التام، ومن ثم لم يعد لبقاء هذا النص حكمه في التشريعات الحديثة إلا التستر على أسرار العائلات صونًا لسمعتها وحفظًا لكيانها، غير أنه لما كان إطلاق الإعفاء له من النتائج ما لا يتفق مع مصلحة العائلة نفسها فقد اتجهت بعض التشريعات الحديثة إلى تعليق الإعفاء على رغبة المجني عليه، والشريعة الإسلامية وإن كانت لا تقيم الحد في السرقات التي تحصل من الأب والابن والزوج والزوجة وكل محرم ذي قرابة، فإنها لا تمنع من التعزير الذي يجوز فيه الحبس، ومع ذلك، فإنه مراعاةً لكيان الأسرة قد رؤي ألا تُقام دعوى السرقة في هذه الحالة إلا بناءً على طلب المجني عليه، كما أنه خوّل له حق التنازل عن الدعوى في أي وقتٍ شاء، وحق طلب وقف تنفيذ الحكم على الجاني».
المطلب الثاني
اتجاه تعليق تحريك الدعوى الجنائية عن السرقة العائلية على شكوى المجني عليه
كما سبق أن رأينا، كان “قانون العقوبات المصري” في بدايته يتجه إلى اعتبار الرابطة الأسرية بين الجاني والمجني عليه متمثلةً في علاقة الزوجية أو العلاقة بين الأصول والفروع، مانعاً من العقاب، ولكن، وبموجب القانون رقم (64) لسنة 1947م بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات، تم العدول عن هذا الاتجاه، بحيث لم تعد الرابطة الأسرية مانعًا للعقاب، وإنما غدت فحسب قيدًا على حرية النيابة العامة في تحريك الدعوى العمومية، وبحيث لا يمكن تحريكها إلا بناءً على طلب أو شكوى من المجني عليه.
ويمكن القول إن هذا هو الاتجاه التشريعي السائد حالياً في الدول العربية كافة، فعلى سبيل المثال، في دولة الامارات العربية المتحدة، ووفقاً للمادة الثالثة والثمانين من قانون العقوبات الصادر بالقانون الاتحادي رقم (3) لسنة 1987م، معدلة بالقانون رقم 52 لسنة 2006م، «للمحكمة عند الحكم في الجريمة بالغرامة غير النسبية أو بالحبس مدة لا تزيد على سنة أن تأمر في الحكم بوقف تنفيذ العقوبة إذا رأت من أخلاق المحكوم عليه أو ماضيه أو سنه أو الظروف التي ارتكب فيها الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى ارتكاب جريمة جديدة. وللمحكمة أن تجعل وقف التنفيذ شاملاً أية عقوبة فرعية عدا المصادرة. وفي الجنح المنصوص عليها في المواد (328)، (329)، (330)، (339)، (372)، (373)، (374)، (394)، (395)، (403)، (404)، (405) وفي السرقة والاحتيال وخيانة الأمانة وإخفاء الأشياء المتحصلة منها إذا كان المجني عليه زوجاً للجاني أو كان أحد أصوله أو فروعه، توقف النيابة العامة تنفيذ العقوبة المقيدة للحرية المقضي بها متى تنازل المجني عليه أو تصالح مع المحكوم عليه».
وفي دولة الكويت، تنص المادة (241) من قانون الجزاء رقم (16) لسنة 1960م، «لا تقام الدعوى الجزائية على من ارتكب سرقة أو ابتزازًا أو نصبًا أو خيانة أمانة، إضرارًا بزوجه أو زوجته أو أصوله أو فروعه، إلا بناءً على طلب المجني عليه، الذي له أن يقف إجراءات الدعوى في أية مرحلة كانت، وأن يقف تنفيذ الحكم النهائي على الجاني في أي وقت».
ووفقاً للمادة (369) من قانون عقوبات قطر رقم (11) لسنة 2004م، «لا تجوز محاكمة كل من يرتكب أيًّا من الجرائم المنصوص عليها في هذا الفصل والفصول الثلاثة السابقة، إضرارًا بزوجه أو أصوله أو فروعه، إلا بناءً على شكوى المجني عليه، وللمجني عليه أن يتنازل عن شكواه بذلك في أي حالة كانت عليها الدعوى، كما له أن يوقف تنفيذ الحكم النهائي على الجاني في أي وقتٍ يشاء».
جدير بالذكر أن هذه المادة وردت في نهاية الفصل الرابع من الباب الثالث، ويسري حكمها – وفقاً لنصها – على الجرائم الواردة في هذه الفصول الأربعة الوارد بها نصوص بعض الجرائم الواقعة على المال ومنها السرقة.
وفي مملكة البحرين، تنص المادة (400) من قانون العقوبات الصادر بالمرسوم بقانون رقم (15) لسنة 1976م على أن «لا يجوز رفع الدعوى أو اتخاذ إجراءات التحقيق الابتدائي عن الجرائم المنصوص عليها في هذا الفصل والفصول السابقة من هذا الباب إذا وقعت أضرارًا بزوج الجاني أو أصوله أو فروعه إلا بناءً على شكوى المجني عليه، وتنقضي الدعوى الجنائية بتنازل المجني عليه عن شكواه قبل الحكم النهائي، وللمجني عليه كذلك أن يمنع السير في تنفيذ الحكم في أي وقت»، وقد وردت هذه المادة في نهاية الفصل الرابع من الباب التاسع، ويسري حكمها – وفقًا لنصها – على الجرائم الواقعة على المال الواردة في الفصول الأربعة، ومنها السرقة.
وطبقاً للمادة (355) من “قانون الجزاء العماني”، الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 7/ 2018م، «لا ترفع الدعوى العمومية على من يرتكب أياً من الجرائم المنصوص عليها في الفصلين الأول والثاني من هذا الباب، إضرارًا بزوجه أو أصوله أو فروعه، إلا بناءً على شكوى المجني عليه»، ووردت في نهاية الفصل الثاني من الباب الحادي عشر وتسري – وفقاً لنصها – على الجرائم الواردة بهذين الفصلين، الواقعة على المال، ومنها السرقة.
وفي جمهورية العراق، ووفقًا للمادة (463) من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969م، «لا يجوز تحريك الدعوى أو أيّ إجراءٍ ضد مرتكب جريمة من الجرائم المنصوص عليها في الفصول السابقة من هذا الباب إضرارًا بالزوج أو أحد الأصول أو الفروع إلا بناءً على شكوى المجني عليه، وتنقضي الدعوى الجزائية بتنازل المجني عليه عن شكواه قبل صدور حكم نهائي في الدعوى، ويوقف تنفيذ الحكم إذا حصل التنازل بعد صدور الحكم، ولا تسري أحكام هذه المادة في حالة ما إذا كانت الأشياء محل الجريمة محجوزًا عليها قضائيًا أو إداريًا او من جهة ذات اختصاص أو موضوعة تحت يد القضاء أو مرهونة للغير أو كانت مثقلة بحق انتفاع للغير».
وقد ورد هذا الحكم في أولى مواد الفصل السادس من الباب الثالث من الكتاب الثاني من قانون العقوبات العراقي، وعنوان هذا الفصل «أحكام مشتركة»، والمقصود به هو الأحكام المشتركة بين الجرائم المنصوص عليها في الباب الثالث من قانون العقوبات، وعنوان هذا الباب هو «الجرائم الواقعة على المال»، متضمنًا فصولاً ستة، يتعلق كل فصل منها بإحدى طوائف الجرائم الواقعة على المال، متبوعة بفصلٍ سادس وأخير يتضمن الأحكام المشتركة بينها جميعاً، وهذه الطوائف من الجرائم الواقعة على المال هي: جريمة السرقة (الفصل الأول)، جريمة اغتصاب السندات والأموال (الفصل الثاني)، جريمة خيانة الأمانة (الفصل الثالث)، الاحتيال (الفصل الرابع)، جريمة إخفاء أشياء متحصلة عن جريمة (الفصل الخامس). ويعني ذلك أن قيد الشكوى الوارد في المادة (463) من قانون العقوبات العراقي ينصرف نطاق تطبيقه إلى الجرائم الواقعة على المال كافة، متى كانت طبيعة الجريمة تتعلق بمالٍ خاص بأحد الأفراد أو بآحاد الناس وتوافرت علاقة القرابة المشار إليها بين الجاني والمجني عليه.
المطلب الثالث
تحبيذ اتجاه تقرير مانع عقاب في حالة السرقة العائلية
بالمقارنة بين الاتجاهين السابقين، ورغم أن الاتجاه الأول يبدو مهجورًا في التشريعات الجنائية المعاصرة، ورغم أن الاتجاه الثاني هو الاتجاه السائد في التشريعات الجنائية العربية، نرى من الملائم دعوة المشرّع الجنائي في الدول العربية كافةً إلى تبنّي النهج الأول، وأن يكون الحكم القانوني واجب الاتباع في شأن السرقات العائلية هو تقرير مانع عقاب في هذه الحالة، لاسيما في حالة السرقات بين الأصول والفروع، وسندُنا في ذلك أن تسبب الابن في سجن أبيه يخدش الشعور العام في المجتمع ويهز منظومة القيم الاجتماعية.
وإذا كان سلوك الأب أو الأم الذي يعتدي على مال ابنه يضر بهذا الابن، فإن تسبب الابن في سجن أبيه أو أمه يمس الشعور العام في المجتمع ويزعزع منظومة القيم الاجتماعية، وإذا كانت الملكية هي أحد الحقوق الأساسية للإنسان، فإن حماية الأسرة هو إحدى الدعامات أو المقومات الأساسية للمجتمع (يراجع على سبيل المثال: الفصل الأول من الباب الثاني من الدستور المصري لعام 2014م؛ الباب الثاني من دستور الإمارات العربية المتحدة؛ الباب الثاني من دستور مملكة البحرين لعام 2002م)، فإذا تنازعت الحماية الجنائية لحق الملكية مع حماية أحد المقومات الأساسية في المجتمع، فإن الثانية تغلب على الأولى، ونحن هنا لا نقول بإباحة الاعتداء من الأب أو الأم على أموال الابن دونما ضابطٍ أو رابطٍ أو حساب، ولكن كل ما نقول به هو البحث عن وسيلة أخرى بديلة للعقوبة الجنائية، بحيث يمكن من خلالها تحقيق التوفيق والتوازن بين حماية الملكية وحماية الأسرة.
ونعتقد أن سلوك سبيل الدعوى المدنية من خلال المطالبة بالمال كافٍ، دونما حاجة لفتح الباب نحو إقامة الدعوى الجنائية على الأب أو الأم بناءً على شكوى من الابن أو البنت؛ فليس معقولًا أو مقبولًا أن يسمح المجتمع للابن أو البنت بتقديم شكوى ضد أحد الوالدين تقود به إلى السجن بسبب النزاع على أموال.
ومن ناحيةٍ أُخرى، فإن أحد أغراض العقوبة الجنائية هو إرضاء العدالة، وبتطبيق ذلك على الحالة الماثلة، يبدو جلياً أن العكس هو الذي يتحقق، حيث يصدم شعور الأفراد أن يتعرض أحد الوالدين للسجن بناءً على شكوى من ابنه أو ابنته، بسبب نزاع على أموال، لاسيما إذا كانت هذه الأموال قد تم إنفاقها على المستلزمات المعيشية والحياتية.
ومن ناحيةٍ ثالثة، فإن تشريعات الأحوال الشخصية في الدول العربية توجب على الولد الموسر، ذكرًا كان أو أنثى، كبيرًا أو صغيرًا نفقة والديه، إذا لم يكن لهما مال يمكن الإنفاق منه، وإذا كان مال الوالدين لا يفي بالنفقة، ألزم الأولاد الموسرون بما يكملها. وتوزع نفقة الوالدين على أولادهما بحسب يسر كل واحد منهم، وإذا أنفق أحد الأولاد على أبويه رضاءً فلا رجوع له على إخوته. وإذا كان الإنفاق بعد الحكم عليهم بالنفقة، فله أن يرجع على كل واحدٍ منهم وفق الحكم، إن أنفق عليهم بنية الرجوع (يراجع على سبيل المثال: المادتان 81 و82 من قانون الأحوال الشخصية الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة رقم 28 لسنة 2005م).
ومن ناحيةٍ رابعة، فإن المشرّع الجنائي يجعل من رابطة القرابة عذرًا معفيًا في أكثر من جريمة ماسة بالحق العام، كما هو الشأن في إيواء الفارّين من وجه العدالة، والامتناع عن الإبلاغ عن الجرائم، وغيرها؛ فلا يعقل أن يكون أفراد الأسرة الواحدة أقل حرصًا من المشرّع على كيانها، وإذا فرض أن الابن أو البنت لا يقيم اعتبارًا للعلاقات الأسرية، فلا يجوز أن نسمح له بأن يكون مثلًا سيئًا في المجتمع، بما يسهم في انتشار السلوكيات المريضة بين أفراده.
ومن ناحيةٍ خامسة، وفي الشريعة الإسلامية، ثمّة مبدأ يقول إنه «لا يقاد والد بولده»؛ لأن الأب كان سببًا في منح الحياة للولد، فلا يجوز أن يكون الولد سببًا في هلاك الأب. وبالمثل، لا نرى مسوغًا لمنح الابن سلطة الشكوى على أبيه أو أمه، بما يقود بهما أو بأحدهما إلى السجن، ويكفي الابن في هذا الصدد سلوك سبيل الدعوى المدنية، إن كان لذلك مقتض..
ولكل ما سبق، نرى أن الدعوة واجبة للمشرّع الجنائي نحو تقرير مانع عقاب في جرائم السرقة وخيانة الأمانة والنصب بين الأصول والفروع، وفي ظل الوضع الحالي، والذي تتبنى فيه التشريعات الجنائية نهج تعليق تحريك الدعوى الجنائية على شكوى المجني عليه، نرى من الملائم دعوة القاضي الجنائي إلى إعمال سلطته التقديرية في إيقاف تنفيذ عقوبة الحبس، الأمر الذي يتطلب بطبيعة الحال ألا تزيد مدة العقوبة السالبة للحرية على سنة.
والله من وراء القصد…