بالفعل والعمل لا بالكلام !
بقلم/ الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين
نشر بجريدة الوطن الجمعة 24 / 12 / 2021
يبدو أننا أحوج الأمم إلى تذكير أنفسنا بأن مخاطبة الناس بالمواقف والتصرفات والأفعال ، أقوى كثيرا وأبعد أثرا وتأثيرا من مخاطبتهم بالكلام . الكلام بغير أفعال تصادقه وسلوك يشهد به ، أشبه بالحرث فى البحر ، لا صدى حقيقيا ولا طحن له . يسهل علينا الكلام لأنه لا يقتضينا مجهوداً ولا يلزمنا بالتزام ، ومن الناس من يعشق التشدق به خطيباً أو متحدثاً أو متخايلاً ، لا يلقى بالاً لأثر كلامه الذى لم يجاوز فى مقصده إبهار السامعين ببلاغته وفصاحته !
وقد يبدو للوهلة الأولى ، أن الدعوة القولية هى وحدها التى تقبل الإعداد والتخطيط والتنظيم واتباع المناهج وتعديلها حسب ظروف الزمان والمكان ، وأن الدعوة عن طريق مخاطبة الناس بالمواقف والتصرفات والأفعال ، تستعصى على فكرة الإعداد والتخطيط والتنظيم والمناهج ، لأن زمام هذا النوع من الخطاب فى يد آحاد ، يتوقف على سلوك كل منهم الشخصى ، بيد أن هذا الظن غير صحيح ، فالسلوكيات والتصرفات والأفعال تقبل بدورها الدراسة والإعداد والتنظيم ، ولكنها تحتاج إلى مزيد من الصدق ، ومزيد من شجاعة القلب وقوة التماسك والثبات .
ومهما سلمنا بوجود قدر فى خطاب الدعوة يجرى بالمواقف والتصرفات والأفعال ، إلاَّ أن الدعوة القولية هى الطاغية ، فهى أقل مشقةً وأيسر أداءً ، فلا يقتضى بذل الكلام جهداً كثيرا ولا عناءً ، ولا يكلف صاحبه فى الأغلب تضحية فى أطماعه أو فى أمواله ، ولا يقتضيه تغييرا فى عاداته وأسلوب حياته ، فى الوقت الذى يجذب إليه الأنظار ، ويحقق له السمعة ، ويشهد لـه بين الناس بالعلم والفضل .
ويبدو واضحًا من مراجعة التاريخ والحاضر ، أن مخاطبة الناس بالكلام ، هى الأسلوب السائد ، وأن الصلة بين الكلمة والفعل تكاد تكون مقطوعة ، حتى ساد منطق ، « قل ما يرضى الناس ، وافعل ما شئت » .. فالناس ذاكرتها ضعيفة فلا تقارن ما يحدث على ما سبق أن قيل ، ولا تسأل بالتالى عن الذرائع التى تركت الوعود وانقلبت بالأفعال والأعمال إلى نقيضها ؟ .. انفصلت الكلمة تمامًا ـ أو كادت ـ عن الكلام ، ومن هذا الانفصام حدثنا القرآن الكريم ، فقال : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ » (الصف 2 ، 3) .
وأشر وأكثر سوءًا من هذا الفصام ، أن تنقطع أو تكاد ـ مخاطبة الناس بالمواقف والأعمال والسلوك والأفعال ، فيغدو الخطاب كله كلام فى كلام !! وما أسهله على الأدعياء وهواة التباهى بالكلمات ، ولا سيما الضخمة أو ذات الرنين !!!
ومع أن الكلمة فى ذاتها هى قوام كل الحضارات ، وكتب ومدونات الأديان ، والمؤلفات والآداب والأشعار ، وكتب العلم ـ إلاَّ أنها يجب أن تكون موصولة بالفعل ، إلاَّ أن هذه الصلة الواجبة ـ لم يكن لها وجود فى الجاهلية العربية .
ومن المؤسف أن انفصام هذه الصلة الواجبة ، قد صار إلى ظاهرة محيرة ومؤسفة على الساحة العربية ، رغم تحذير القرآن والسنة من انفصام الفعل عن الكلام ـ نربيها فى أطفالنا دون أن ندرى حين نخوفهم بكائنات لا وجود لها كالغول والشمّامة وغير ذلك من التخاريف التى تساق لترهيب الصغار . ومضى هذا الشرخ إلى قلب المعانى ، فالبطولة بالكلام ، وكذلك الشجاعة والبسالة ، حتى وإن كذبها واقع الأفعال .
معنى هذا الانفصام بين الكلمة والفعل أن نعيش حياة منبتة الصلة بما ندعيه ونتقاوله .. أن الباطن غير الظاهر ، وأن الانخداع بالظاهر يصرفنا عن الباطن ، عن الجوهر !.. جوهر الآدمى فى سلوكه وفعله قبل أن يكون فى قوله وتشدقه ! لذلك قيل إن الإيمان ليس بالتمنى ، وإنما ما وقر فى القلب وصدقه العمل !
كثرت لدينا الكلمات حتى فقدت معانيها ، ونسـى النـاس أنه مـع قيمـة وعظمة الكلمة ، إلاّ أنها مرهونة بما تعبّر عنه فى دنيا الواقع والفعل والسلوك .
ويبدو أن اعتقادنا المبالغ فيه فى قوة الكلام وقدرته ، نابع من كوننا قد عشنا أحقابا على الأمانى ، ففقدنا ثقتنا بالمحدود المعين المقدور فى التنفيذ ، وفقدنا الاستعداد النفسى لبذل الجهد . والصوفية على سواء حين يفرقون بين « الرجاء » باعتباره الثقة فيما عند الله التى تحدث للعامـل الناشط ، وبين « الأمنية » من حيث احتمال تحقق المراد المأمول بغير اتخاذ أسبابه . ونحن بين يدى الأمنية نتخلى عن الإرادة أو ما يتصل بها من عمل ورجاء معقود بالله طى هذا العمل ، ونستسلم استسلاما تاما مريحا لما ستجىء به الأيام كيفما تجىء . على أن فقدان الرجاء يعطل معظم إرادة الإنسان ، فيعاف ويكره كثيرا مما يحتاج إلى جهد ومثابرة ووقت . لذلك ففقدان الرجاء معناه فقدان أهم وأشرف حافز ـ يحفز إرادة الآدمى ويحركها إلى العمل والمثابرة عليه وإتقانه وتجويده . وقد تحول ذلك مع الزمن إلى داء مزمن ضمرت معه الإرادة البشرية ، واستغنى الناس بالأمنية عن الرجاء ، واكتفوا فى ظل الإرادة الضامرة بالانتظار ، واعتادوا عليه ، هاربين دائما من الرجاء الخصب إلى غرور الأمانى الجدباء !
وخلال ذلك وقع الخلط بين بساطة الإسلام وبين السهولة ، فاعتقد البعض أن الإسلام بسيط بمعنى أنه سهل لا يتقاضى من المسلم جهدا ولا عزيمة ولا تضحيات ، وأدى هذا ومهد ووطد لسيادة الكلام والفصاحة وحلولهما محل الأعمال والأفعال .
لا ينبغى لعاقل أن يتصور أن الإخلاص لله تعالى أمر هين لين ، فكيف يتصور أن يكون الإسلام سهلا هينا ؟!
بساطة الإسلام معناها أنه قادر قدرة عجيبة على إبراز ما هو جوهرى ومفيد فى أغراضه ، وعلى استبعاد كل ما يحجب الجوهر من الحواشى والتفصيلات . فبساطة الإسلام ترجع إلى أدائه لمضمونه ، ومقدرته على أداء هذا المضمون أداء ناصعاً مباشرا . وهذه البساطة نقيض تلك السهولة الكلامية البدائية التى تكتسح ما هو جوهرى وأساسى . فالإسلام بسيط من جهة حرصه الشديد على رؤية ما هو جوهرى وما هو مفيد فى الحياة ، مرتسماً بقوة على سلوك المؤمن وتصرفاته فى حياته الخاصة والعامة .
وكما حصل الخلط بين بساطة الإسلام وبين السهولة ، حصل التمييز بين المتدين والمستقيم ، فلم تعد البيئات الإسلامية تعتبر التدين مرادفاً للاستقامة ملازماً لها لا ينفك عنها.
وقد نتج عن طول سيادة الكلام وانفصال الدعوة القولية عن خطاب الناس بالمواقف والتصرفات والأفعال والسلوك ـ نتج عن ذلك أن ضعفت قدرة اللغة الإسلامية عن التوصيل ، وانفصلت فى الغالب عن الواقع والحقيقة !
إن وراء ميل معظمنا إلى الاشتغال بالأغراض الضخمة والإصلاحات الكلية ، وراءها فضلا عن جاذبيتها ـ بقية من فقدان الرجاء وضمور الإرادة والهرب من ملاقاة الواقع والتعامل معه ومعاناته . ولن يستطيع أفراد المسلمين أن يصلحوا واقعهم ـ مع المحافظة على حرياتهم وحقوقهم ـ إلاَّ إذا لاقوا هذا الواقع بأنفسهم ، وعانوه بأشخاصهم منفردين ومشتركين فى إصلاحات جزئية وأغراض معينة محددة يكون فى استطاعتهم هم التعرف عليها والقيام بتنفيذها . وهذا يأخذنا إلى قضية أخرى هى قضية اتجاه الإسلام : هل هو يتجه إلى الماضى كما ينعى عليه خصومه ، أم أنه يتجه إلى الأمام نحو المستقبل متخذًا من الماضى قوة تؤيده وتسدد خطاه ؟!
والملاحظ أن الناس يقبضون على ماضيهم بعناد وإصرار وتعصب حين لا ينجح الحاضر فى اكتساب ثقتهم ، وحين ينفرهم هذا الحاضر ويزعجهم ، وحين يحسون أن القيم اللازمة للحياة الكريمة ـ غير مصونة ولا محترمة . وهذه آفة خطيرة ، لأن الإنسان ابن مستقبله ، وليس ابن ماضيه أو حاضره .. لكنه يتخوف من غده دائمًا بالالتفات إلى الحاضر وتصوره للماضى !