انقضاء الدعوى الجنائية بالتنازل
كتب : محمد شعبان
قد تلتبس الحالة التي يتقرر فيها إنقضاء الدعوى الجنائية بالتنازل مع الأحوال المشابهة التي تنقضي فيها الدعوى الجنائية صلحاً أو بالتصالح، ولئن كان في جميع الأحوال الأثر المترتب في الحالين واحد، إلا أن الحالة الأولى تختلف عن الحالتين الأخرتين موضوعاً وسببا، وهو ما يتعين معه تسليط الضوء على الفوارق القانونية بين الحالتين.
حيث أورد المشرع المصري في المادة (10) من قانون الإجراءات الجنائية النص على الحالة التي تنقضي فيها الدعوى الجنائية بالتنازل، وكان ذلك في معرض تنظيمه للأحكام القانونية للقيود التي تَحدّ من سلطة النيابة العامة في تحريك الدعوى الجنائية؛ فمن المعلوم أن النيابة العامة لها كامل الحرية في تحريك الدعوى الجنائية كلما وقعت الجريمة التي تنشئ حق الدولة في العقاب، فهذه الجريمة تمثل الحالة الواقعية التي تبرر تدخل الدولة عبر جهازها الخاص وهو “النيابة العامة” لتحريك الدعوى الجنائية عن هذه الجريمة لاقتضاء المجتمع لحقه.
إلا أنه قدَّر في أحوال معينة وجوب تدخل شخص آخر أو جهة أخرى لتقدير مدى ملائمة تحريك الدعوى الجنائية عن هذه الجريمة متى كانت المصلحة محل الإعتداء من الجريمة هي مصلحة ذلك الشخص أو تلك الجهة، وهنا فرض المشرع قيداً على حرية النيابة العامة في تحريك الدعوى الجنائية، وأوجب مبادرة صاحب الصفة والمصلحة بنفسه أو عبر وكيله الخاص في رفع هذا القيد وذلك بتقديم شكوى أو طلب يعرب فيه عن رغبته في تحريك النيابة العامة للدعوى الجنائية.
وقد نظمت المواد من (3) إلى (7) من قانون الإجراءات الجنائية ” قيد الشكوى ” كإجراء لازم لاسترداد النيابة العامة سلطتها في تحريك الدعوى الجنائية في بعض الجرائم المبينة بنص القانون.
حيث بينت المادة الثالثة شكل الشكوى والذي تستوي فيه أن تكون شفاهية أو كتابية، وصاحب الصفة في تقديمها وهو المجني عليه أو وكيله الخاص، والجهة المختصة بتلقي الشكوى وهي النيابة العامة أو أحد مأموري الضبط القضائي المختصين دون غيرهما، ومحل الشكوى والمتمثل في الجرائم التي يسري في شأنها ذلك القيد، والميعاد الذي ينبغي أن تقدم فيه الشكوى وهو ثلاثة أشهر من تاريخ علم المجني عليه بالجريمة وبمرتكبها مالم ينص القانون على خلاف ذلك.
وتناولت المادة الرابعة الأثر القانوني المترتب على تعدد المجني عليهم أو المتهمون وانعكاس ذلك على الدعوى الجنائية متى قدمت الدعوى الجنائية من أحد هؤلاء المجني عليهم أو ضد هؤلاء المتهمين. واستظهرت المادة الخامسة الأهلية الإجرائية اللازمة لتقديم الشكوى وهي خمس عشرة سنة كاملة، ما لم يكن مصاباً بعاهة في عقله فهنا ينتقل الحق فيمن له الولاية عليه متى كانت الجريمة واقعة على نفس القاصر أما إذا كانت واقعة على ماله فالحق في الشكوى يثبت للوصي أو القيم.
وتناولت المادة السادسة الحكم الذي تتعارض فيه مصلحة المجني عليه مع مصلحة من يمثله وجعل القانون هنا للنيابة العامة المختصة ( نيابة الأسرة ) الولاية على القاصر ونقل إليها الحق في الشكوى.
وبينت المادة السابعة الحالة التي ينقضي فيها الحق في الشكوى وهي وفاة المجني عليه مالم تحدث الوفاة بعد تقديم الشكوى.
وقد نظمت المادتان (8) و (9) من قانون الإجراءات الجنائية ” قيد الطلب ” كإجراء لازم كذلك لاسترداد النيابة العامة سلطتها في تحريك الدعوى الجنائية في بعض الجرائم المبينة بنص القانون.
وقد تناولت المادتان أمثلة للحالات التي يستوجب المشرع فيهما تقديم طلب كإجراء لازم لتحريك الدعوى الجنائية والسلطة المختصة بتقديم الطلب.
ولم يورد المشرع النص على هذه الأحوال على سبيل الحصر، وإنما أوردها على سبيل المثال، وأجاز في الأحوال الأخرى التي ينص عليها القانون أن يُعلق تحريك الدعوى الجنائية على تقديم طلب، وهي الأحوال التي دأب المشرع في النص عليها في القوانين المنظمة للمصالح المالية للدولة كقوانين الضرائب وقانون البنك المركزي والنقد وقوانين الاستثمار والرقابة على التأمين والتمويل العقاري وغيرها من القوانين المنظمة للأدوات المالية المصرفية منها وغير المصرفية.
وفي جميع الأحوال التي يشترط القانون فيها لرفع الدعوى الجنائية تقديم شكوى أو طلب من المجني عليه أو غيره، لم يجز القانون اتخاذ إجراءات التحقيق فيها إلا بعد تقديم هذه الشكوى أو الطلب، اللهم إلا في في الجريمة المنصوص عليها في المادة 185 من قانون العقوبات وفي الجرائم المنصوص عليها في المواد 303 و306 و307 و308 من القانون المذكور إذا كان المجني عليه فيها موظفاً عاماً أو شخصاً ذا صفة نيابية عامة أو مكلفاً بخدمة عامة وكان ارتكاب الجريمة بسبب أداء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة يجوز اتخاذ إجراءات التحقيق فيها دون حاجة إلى تقديم شكوى أو طلب أو إذن.
ومتى قدمت الشكوى أو الطلب في هذه الأحوال استردت النيابة العامة سلطتها في مدى ملائمة تحريك الدعوى الجنائية ضد المتهم.
إلا أنه وبالرغم من ذلك فقد أجاز المشرع في نص الفقرة الأولى من المادة (10) من قانون الإجراءات الجنائية، للشخص الذي تقدم بالشكوى أو للجهة التي تقدمت بالطلب أن تتنازل عنه في أي وقت إلى أن يصدر في الدعوى حكم نهائي، وفي هذه الأحوال متى كانت الدعوى لا تزال قيد التحقيق في النيابة العامة فإنها يجب عليها أن تقرر في الأوراق بالأمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لانقضاء الدعوى الجنائية بالتنازل، وإذا كانت الدعوى منظورة أمام المحكمة في أي درجة من درجات التقاضي ولو حتى كانت أمام محكمة النقض، فعلى المحكمة أن تقضي فيها بذات الحكم.
إلا أن التقرير في الأوراق أو القضاء بانقضاء الدعوى بالتنازل مرهون بتحقق شروط هذا الإنقضاء، وهذه الشروط تتمثل في الآتي :
1- أن يتقدم الشاكي أو الجهة الطالبة بالتنازل قبل صدور حكم نهائي في الدعوى، والمقصود بالحكم النهائي هنا هو الحكم البات الذي استنفد كافة طرق الطعن العادية وغير العادية، لأنه بصدور هذا الحكم تنقضي الدعوى الجنائية به.
2- إذا تعدد المجني عليهم فلابد لكي يكون التنازل صحيحاً أن يقدم منهم مجتمعين، وذلك بعكس الحالة التي يتعدد فيها المتهمون، إذ أن التنازل بالنسبة لأحدهم يعد تنازلاً بالنسبة للباقين.
3- وجود الشاكي على قيد الحياة، فلا يقبل التنازل من ورثته حال وفاته، إلا في حالة واحدة على سبيل الاستثناء وهي دعوى الزنا، إذ أجاز المشرع لكل واحد من أولاد الزوج الشاكي من الزوج المشكو منه أن يتنازل عن الشكوى وتنقضي الدعوى.
تلك هي الأحوال التي تنقضي فيها الدعوى الجنائية بالتنازل، وفي المقال القادم سنسلط الضوء على أحوال انقضاء الدعوى الجنائية صلحاً وبالتصالح وأهم الفروق بين هاتين الحالتين وحالة انقضاء الدعوى الجنائية بالتنازل.