انسحاب العقل وتراجع الحضارة ! (2)

نشر بجريدة الوطن السبت 4/12/2021

ــــ

بقلم: الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين

رأينا من الرعيل الأول من السيدات ـ الأستاذة فى الأدب ، وفى المحاماة ، وفى الطب ، وفى الهندسة ، وفى الصيدلة ، وفى العلوم ، وفى الفقه ، وفى الرياضيات ، وفى الذرة ، وطفقت المرأة منذ أكثر من قرن تطرق جميع المجالات ، وتثبت جدارتها فيها ، حتى انتزعت بعد الحق فى الانتخاب ، الحق فى الترشح ، ودخلت البرلمان ، وأبلت فيه ، ورأينا بين الوزراء أول وزيرة الدكتورة حكمت أبو زيد وزيرة الشئون الاجتماعية أستاذة علم النفس بكلية البنات جامعة عين شمس ، والدكتورة عائشة راتب وزيرة التأمينات والشئون الاجتماعية أستاذة القانون الدولى بجامعة القاهرة ، وتتابع حمل حواء للحقائب الوزارية ، وصرن عددًا فى مجلس الوزراء ، فضلاً عن المجالس والمناصب الكبرى وبين المحافظين بالمحافظات ، وترشحت أخيرًا لرئاسة الجمهورية .

لا أدرى لماذا فرطت حواء فى هذه المساحات التى قطعتها ، ولماذا عادت فتركت مقاليدها لخفافيش الظلام ليعودوا بها القهقرى لتصير فى نظرهم مجرد متعة للرجل ، فصاروا يتعاملون معها على أنها « عورة » إخفاؤها واجب ، يتوسلون إلى هذا الإخفاء بوسائل وتعلات شتى ، وكأنهم لا يرون فى حواء إلاَّ أنها مصدر إهاجة أو إثارة للرجل ، وطفق خفافيش ظلام ينفردون بالحديث فى البرلمان للنزول بسن الزواج إلى التاسعة ، ليصادروا المرأة من سن الطفولة من نعومة أظفارها ، فلا تعليم ولا دراسة ولا عمل .

من اللافت المؤسف أن يغيب أو يُغَيَّب صوت حواء وسط هذا المعمعان الذى يقوده خفافيش انفصلوا عن العصر وعن الدين الذين يدّعون الحديث باسمه ، وأن يغيب أو يُغَيب صوت حواء فى كثير من الأقضيات التى تمس أخص حقوقها .

الذين يتصدرون المشهد لفرض النقاب على حواء ، رجال لا نساء ، يعتبرون وجه المرأة عورة ، مع أنها تحج بيت الله الحرام سافرة الوجه بلا نقاب ، ويشتطون ويخالفون الشرع ، فلا مصدر للنقاب فى الشرع ، وإنما هو عادة وليس عبادة ، ومع ذلك فالغريب أن تغيب حواء عن التصدى لهذه الدعوة السقيمة ، مع أن الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، أصدروا كتابًا ضافيًا معززًا بآراء الأقدمين والمحدثين من الفقهاء ، مؤكدًا أن النقاب «عادة وليس عبادة » , وأنه لا أساس للنقاب فى الشرع ، فضلاً عن مجافاته لمقتضيات العصر الذى تظهر فيه حواء فى مجالات متعددة يتعين فيها إثبات الهوية كأقسام النساء بالمستشفيات ، وحجرات الطالبات بالجامعات ، فضلاً عن المرور من المنافذ الجمركية والحدودية وغيرها ، وتأدية الامتحانات وخلافه ، فلا محيص عن إثبات الهوية فيها ، ولا مجال لإثباتها إلاَّ بالوجه .

لست أخفى أن هدفى أن تتقدم حواء لحمل نصيبها الواجب من المسئولية ، ليس فقط للدفاع عن حقوقها المهضومة والأخرى المروم من البعض اغتيالها ، وإنما لأن مصر تحتاج الآن ـ أكثر من أى وقت مضى ـ إلى دور ريادى فعال من حواء ، ليس فقط لتحرير المرأة التى بالفعل تحررت وعليها أن تمارس حريتها الوقورة المعطاءة ، وإنما لتحرر المجتمع كله، رجاله ونساءه .

إلام ترتد كل هذه الظواهر المؤسفة التى زحفت علينا .. لقد صرنا على غير ما كنا عليه ، وتراجعنا وارتددنا بدلاً من أن نواصل التقدم والاستنارة .. هل هو فراغ المَعِين وضحالة الثقافة والمعرفة ؟! .. هل مرده إلى ضيق الأفق وضمور الفكر وضيق الصدور وقلة الصبر ؟! .. أم أنه الجمود والتعصب وحالة الاستقطاب وحب الاستعراض والانتصار للذات  ؟!

إن مصالح الوطن العليا قد صارت على المحك نتيجة حالة الاحتقان والهيجان ، والتراجع العقلى والردة الحضارية ، والتعصب والتطرف .. فهل يتقدم عقلاء الأمة ليتنادوا بوقفة نراجع فيه أنفسنا .. ما كنا عليه ، وما صرنا إليه ، وما ينبغى أن نرنو ونتطلع إليه لنعاود التقدم إلى حيث ينبغى أن نكون ؟!

ما تناديت به عن دور المرأة , هو واقع حقيقى لا مجاملة فيه لحواء ، فهى عمود كل أسرة ، وهى الراعى اليقظ المستمر الرءوم للبناتها .. رضاعةً ، وفطامًا ، وتربيةً ، وتلقينًا ، وتعليمًا ، وتهذيبًا ، وتأديبًا .. دورها فى الأسرة ، وهى عمادها ، دور بالغ الخطر والأهمية والجدوى ، فمن هذه الأسرة يخرج الصالح وقد يخرج الطالح ، يخرج المؤدب ، وقد يخرج ناضب الأدب ، يخرج السوى دينًا وخلقًا وسلوكًا ، وقد يخرج الجانح والمتطرف والشارد .. ودور الأم يعوض دور الأب الذى قد تشغله هموم عمله والسعى لطلب الرزق ، وقد تصرفه هواياته أو ملذاته أو أنانياته .. أما الأم فأمومتها فيّاضة تمنعها من الأنانية ، فهى معطاءة على الدوام ، لا تنى عن هذا العطاء لحظة حتى وإن كانت من العاملات ، فهى تسارع بعد العودة من عملها إلى رعاية بيتها ، وإعداد طعام أسرتها ، والاطمئنان على مريضها أو ضعيفها ، أو العناية بالمكروب من أطفالها .. الأم هى العطاء المتدفق الدائم .. وقد أثبتت حواء رغم الجور على حقوقها ، ورغبة البعض العودة بها إلى القرون الوسطى ، أنها قادرة على الحركة ، تملك مقاليدها ولا تتوانى عن التقدم لحمل مسئولياتها ، فكانت هى رمانة الميزان فى 25 يناير 2011 ، ثم فى ثورة 30 يونيو 2013 ، ثم كانت رمانة الميزان فى الاستفتاء على مشروع الدستور فى يناير 2014 ، ثم فى انتخاب رئيس الجمهورية فى مايو 2014 ، فكان حضور حواء حضورًا ثريًّا لافتًا ، ومساهمتها مساهمة مؤثرة ، أنتجت ثمرتها فى إقرار الدستور ، وانتخاب الرئيس بأغلبية كاسحة ونظيفة ـ وغير مسبوقة .

لا أدعى أن حواء تسير على بساط مفروش بالورود والأزهار ، فكثيرون ينكرون عليها حقوقها وإن تَخَفَّى بعضُهُم ، وكثيرون يضيقون بأن يكون لها دور ، ويعلنون أو يتهامسون ، بأن قوامة الرجال عليها تمنعها مما تريد ، وربما همسوا بأنه يجب عليها أن تعود إلى « الخدور » ، وأن تحصر نفسها فيما يريد المجتمع « الذكورى » من مئات السنين أن يفرضه عليها !

أداء حواء لدورها وحملها مسئوليتها فى بناء وتحرر وإصلاح مجتمعها ، وسياسة أمور دولتها ، ليست عصيانًا للزوج أو الأب أو الأخ أو الابن ، وليست خروجًا على « القوامة » فيما تجوز فيه القوامة ، وإنما تلبية لحقًّ طبيعى ووارف العطاء ، أقره لها الإسلام من أربعة عشر قرنًا من الزمان . ما نواجهه الآن من تحديات متنوعة فى كل باب ، يدعو حواء للتقدم لتكون عمادًا أساسيًّا من أعمدة المجتمع فيما نتطلع إليه .

زر الذهاب إلى الأعلى