انتصافاً للأطباء
بقلم أ/ محمد شعبان
الحُكماء .. ملائكةُ الرحمة.. وأخيراً الجيشُ الأبيض .. كلها ألقاب ونعوت، نُعت بها طائفة من البشر، اختصهم الله بالدفاع عن حق الإنسان في الحياة، وحقه في سلامة جسده، وحقه في أن ينعم بصحة جيدة، وهي من أهم حقوق كُفلت للإنسان، ليس على مستوى التشريع الوضعي فحسب، بل وعلى مستوى التشريع الإلهي في المقدمة، ليتسنى له أن يَكد ويَكدح في هذا الكون، ليؤدى واجبه في عمارة الأرض. وهذه الطائفة هي الأطباء .
فالأطباء يتمتعون بمكانة إجتماعية مرموقة، وذلك انطلاقاً من الدور العظيم والجسيم الذي يقومون به في ضمان استمرار الحياة، والحفاظ على النسل البشري، ودرء المخاطر عنه. لذلك دأبت المجتمعات منذ قديم الزمان على الإهتمام بالطب وتطوير آلياته ووسائله، والإرتقاء بالأطباء. ولقد ضرب العرب أروع المثل في ذلك؛ ففي العصور الوسطى وقت أن كان حكم الكنيسة يُحرِّم الطب والبحث في علومه على خلفية بعض المعتقدات التي كانت ترى في المرض عقاب من الله لا ينبغي على الإنسان أن يصرفه عن من يستحقه، اهتم المسلمون العرب بالطب، وأخذوا يطورون دراساته وفنونه التي أخذوها عن الإغريق والرومان، فاستطاعوا أن ينقلوا علومه نقلاً مباشراً من مصادره اليونانية. وبلغت مهنة الطب ذروتها في العصر العباسي الذي شهد اهتماماً بليغاً بعلوم الطب وفنونه، واستطاع العرب المسلمون أن يفرضوا أنفسهم على الساحة العلمية الطبية، من خلال وضع المؤلفات في فنون الطب المختلفة، وصارت مؤلفات أبوبكر الرازي وابن سينا وبن الهيثم وغيرهم، من أهم المؤلفات التي تُدرس في أوروبا في العصور الوسطى .
لذلك فميراث العرب من مهنة الطب ميراث عظيم أخذ يتواتره العلماء والأطباء في كل عصر ومن كل مِصر، حتى وقتنا هذا، وهو ما يتعين معه النظر إلى مهنة الطب نظرة فائقة الأهمية، باعتبار أن الأطباء والمعلمون واصحاب الفن من المهندسين والصيادلة و الباحثين في علوم الكيمياء والفيزياء والفلك وغيرها من العلوم الطبيعية والإنسانية، هم صمام الأمان لأي أمة من الأمم، إذ بات الإستثمار في هؤلاء لأي دولة من أهم مقتضيات أمنها القومي، سيما مع تطور الحروب والوصول إلى أخطر أنواعها وأشدها شراسة، وهي “الحروب البيولوجية” التي تستهدف حياة الإنسان وصحته. ففي ظل هذه الحروب ينشط دور هؤلاء العلماء والأطباء، الذين يشحذون أقلامهم وهي بين أيديهم كالسيوف والأسلحة المتقدمة، ويحشدون طاقاتهم، ويعتصرون أذهانهم سبراً لأغوار العلم الحديث، ليخرجوا بنظريات وتطبيقات، تُستخدم نتائجها وتوصياتها لتدعيم دور الدولة في مواجهة الكوارث والأوبئة التي صارت تستخدم كسلاح فتاك تركع أمامه الأمم.
وقد ظلَّ العلماء والأطباء بمنأى عن الإهتمام، ولم يكن هناك إدراك لجسامة الدور الذي يقومون به، حتى عمَّت جائحةُ كورونا المستجد covid19 والذي عصفت بحياة مئات الآلاف من البشر وفقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية، وأصابت الملايين منهم . هنا ولَّى الجميع قبلته شطر الطب والعلم، وشَخَصَتْ الأبصارُ إلى الأطباء والعلماء، رجالُ المرحلة، وأبطالُ المعركة الشرسة، التي وقفوا فيها بكل شموخ وإيمان يواجهون عدواً شرساً يراهم من حيث لا يرونه.
وقف الأطباءُ في العالم بصفة عامة، وفي مصر خصوصاً، بكل شموخ وإباء في مواجهة الجائحة رغم إمكانياتهم المحدودة، حتى بلغ منهم الجَهد، فرأينا من يفقد بصره وهو يؤدي دوره في إنقاذ حياة المرضى، ورأينا من يعيش في معزل عن زوجه وأولاده بالأيام الطوال ليؤدي واجبه على جبهة النزال الطبي في مستشفيات العزل، فصبر أولوا العزم من الأطباء، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه في قَسَمِ الطب، فمنهم من قضى نحبه، نحسبهم من الشهداء عند ربهم يُرزقون، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.
وحينما نكتب هذه السطور، فإننا نقدم شيئاً من قبيل الإنصاف، ننصف به هذه الطائفة التي ظلمت كثيراً وتعامل معها ذوو الموهبة الضعيفة، على نحو غير لائق، يكاد يلحق بالضرر أو يهدد بالخطر مستقبل الصحة العامة في الدولة المصرية، وهو ما بات حريٌ بنا ونحن رجال القانون والمتحدثون باسمه، أن نستصرخ المشرع، لسنِّ القوانين اتنصافاً لهؤلاء، وارتقاءً بمراكزهم القانونية في الدولة، لتمييزهم تمييزاً موضوعياً، فيُعاملون معاملة المقاتلين الذين يزودون عن حدودها وأمنها وسلامة أرضها. وهم كذلك.
نعم. فالأطباء والصيادلة والعلميون وأعضاء هيئة التمريض وكل من يعاونهم، هم خط الدفاع الأول عن صحة الشعب الذي هو أحد أركان الدولة، التي لا قيام لها بإقليم ونظام حكم فحسب، لذلك تبذل الدول الغالي والنفيس للحفاظ على الصحة العامة لشعوبها. ولعل ذلك ما يجعل رجال الطب ونساؤهم، بمختلف مفرداتهم، بحاجة إلى تشريع، ليهيئ لهم مناخاً فاعلاً للإبداع والإبتكار، ويضمن لهم الإرتقاء بمستواهم العلمي والثقافي والمعيشي، ويهيئ للدولة المصرية الحديثة، مستقبلاً صحياً وعلمياً أفضل، يعزز من قدراتها في مواجهة كل مستحدثات العصر من الأمراض والأوبئة التي باتت تهدد اقتصاديات العالم الحديث، حتى صار من شأنها أن تهدد دولاً – طالماً عُرفت بقدراتها الإقتصادية الكبيرة- بشبح الإفلاس.
يحتاج هؤلاء إلى تشريعات تضمن لهم ولأسرهم وأولادهم مستقبلاً أفضلاً متى قُضى نحبُهم وهم بصدد أداء الواجب الطبي، فحريٌ بهؤلاء أن يعاملون عند وفاتهم كشهداء للواجب، يسري عليهم ما يسري على رجال القوات المسلحة والشرطة البواسل وغيرهم من أبطال الوطن، فيُكَرَّمون معنوياً؛ فيتم ترقيتهم ترقيات استثنائية، ويتم تقرير معاشات استثنائية لهم، وتكفل الدولة لأسرهم حياة آمنة بتوفير مصدر رزق لهم بعد فقد العائل. فمن حق هؤلاء على الدولة أن يستشعروا بأنهم جيشها وهي جيشُهم، وأنهم سَندها وهي سندُهم، فهم –حقاً- خطُ الدفاع الأول في زمن الأوبئة وانتشار الأمراض، وهم الذين يملكون شجاعة الإقدام لإنقاذ المرضى، وبذلِ المحاولات الحثيثة للحفاظ على الأنفاس ليبقى شهيقُها وزفيرُها، وهم الذين يُقدِمُون مُقْبِلِين، غير مُدبِرِين، فيعالجون المرضى، ويقدمون لهم التطمينات التي تُحيي نفوسهم قبل أن تُحيي أبدانهم، لذلك فهم حقاً ملائكةٌ للرحمة.
أتمنى أن يرى أفراد الجيش الأبيض بكل فئاتهم وطوائفهم ما تَقرَّ به أعينُهم، وتطيب به نفوسُهم، حتى إذا ما بَذَلوا أغلى ما يَملِكون، نرى مِن خلفِهم من يحملُ الراية بإيمان صادق وراسخ، مقبلاً على أداء الواجب راضياً مرتضياً، مستشعراً أن الدولة بكل مفرداتها ومؤسساتها وسلطاتها، تدعمُه وتؤيدُه وتؤارُزه وتحميه وتحمي من خلفَه، فلا يُصيبهم الهمُّ، ولا يَغْلِبُهُم الغمُّ، ولا يخافون لو تركوا من خلفهم ذريةً ضعافاً.
عاشت مصر وعاش علماؤها مهد حضارتها ونهضتها.