امتداد اتفاق التحكيم للغير في حالة الاشتراط لمصلحته وأثره على مبدأ النسبية
بقلم الدكتور/ محمد طرفاوى محمد المحامى
تناولنا في المقال السابق فكرة امتداد اتفاق التحكيم إلى الغير في عقود المقاولات وتوصلنا إلى أن انتقال اتفاق التحكيم في حالة الحلول والدعوى غير المباشرة نظراً للمقاول من الباطن نظراً لطبيعة كلا الفكرتين القانونية ففي حالة الحلول ينتقل الحق إلى الغير محملاً بجميع البنود المتفق عليها ومن بينها شرط التحكيم، كما أن أحكام الدعوى غير المباشرة تحكم الدائن في استخدامه لحقوق مدينه بذات الأحكام الواردة بالاتفاق مما يلزمه باتفاق التحكيم حتى ولو لم يكن من أطرافه وذلك كله خروجاً على قواعد نسبية أثر اتفاق التحكيم.
نتيجة لذلك تظهر على بساط الفكرة الثانية في هذا الإطار وهي الاشتراط لمصلحة الغير وهنا نجد علاقة ثلاثية الأطراف ( المشترط – المتعهد – المستفيد ) ومن بينهم طرفين قد وقعوا العقد واتفاقا فيه على مصلحة للغير (المستفيد) يلتزم بها أحد الطرفين (المتعهد) ويكون هذا الاشتراط من الطرف الأخر (المشترط) وبذات العقد اتفقوا على التحكيم كوسيلة لتسوية النزاع، وبذلك يكون لدينا طرفين قد اتفقا على التحكيم (المشترط – المتعهد) وطرف لم يوقع أو يمثل في العقد (المستفيد) وبالتالي فهو من الغير بالنسبة لاتفاق التحكيم.
بداية يجب أن نشير إلى أن نظرية الاشتراط لمصلحة الغير استثناء على القواعد العامة فيما يخص نسبية أثر العقد وأن جميع الحقوق والالتزامات الواردة به لا تلزم إلا طرفيه، وفي ذلك قضت محكمة النقض بأن” المقرر – في قضاء محكمة النقض – أن النص في المادة 152 من التقنين المدني يدل على أن مبدأ نسبية العقد يهيمن على قوته الملزمة بالنسبة للأشخاص والموضوع مما يقتضي أن أثر العقد إنما يقتصر على طرفيه والخلف العام و الخاص أو الدائنين في الحدود التي بينها القانون فلا تنصرف الحقوق الناشئة عنه والالتزامات المتولدة منه إلا إلى عاقديه.” (الطعن 2276 لسنة 70 ق جلسة 2 / 3 / 2013 مكتب فني 64 ق 44 ص 314)
جاءت نظرية الاشتراط لمصلحة الغير خروجاً على القواعد العامة بنسبية أثر العقد وذلك لوجود مصلحة مادية أو معنوية للمشترط كما في حالة عقد التأمين فمن الممكن أن يقوم المشترط (المؤمن له) باشتراط على المتعهد (المؤمن) لصالح الغير (المستفيد) ضد الخطر المؤمن منه، والمثال العملي لذلك أن يؤمن شخص على بضائع لدى شركة تأمين ضد خطر الهلاك الكلي قبل تسليمها للمشترين لصالح من اشتري منه تلك البضائع.
ويترتب على ذلك أن يكتسب المستفيد حقاً مباشراً من العقد دون التزام لأن الالتزام يقع على عاتق المشترط لصالح المتعهد على أن يقوم المتعهد بتنفيذ التزامه لصالح المستفيد، وقد تواترت أحكام النقض في المثال السابق على أن” المقرر – فى قضاء محكمة النقض – أنه إذا جعل شخص من شخص آخر مستحقاً لقيمة التأمين الذى تعاقد عليه مع شركة التأمين ، فهذا اشتراط لمصلحة الغير ، اشترطه المؤمن له على الشركة لمصلحة المستحق .” (الطعن 3625 لسنة 64 ق جلسة 24/ 3/ 2004 س 55 ق 59 ص 319)
لبيان مدى إمكانية انتقال اتفاق التحكيم للغير في حالة الاشتراط لمصلحة الغير يجب أن نوضح العلاقات الناتجة عن هذا النوع من العقود، وينتج عن هذا العقد علاقات ثلاث هي: علاقة المشترط بالمتعهد، علاقة المتعهد بالمستفيد، علاقة المشترط بالمستفيد، وتقوم علاقة المشترط بالمتعهد على أحكام العقد كونه المنظم للعلاقة فيما بينهما، فيما تقوم علاقة المشترط بالمستفيد فقد تكون علاقة تبرع وقد تكون علاقة معاوضة، فيما تقوم علاقة المستفيد بالمتعهد على حق مباشر مصدره عقد الاشتراط ( في ذات المعني يراجع دكتور/ عبدالرزاق أحمد السنهوري – الوسيط في شرح القانون المدني – الجزء الأول – مصادر الالتزام – طبعة دار إحياء التراث العربي – فقرة 378، 279، 380 – ص 465 وما بعدها).
وبالبناء على ما تقدم يمكن للمستفيد أن يطالب المتعهد بتنفيذ التزامه كونه حقاً مباشراً له مصدره الاشتراط إلا أنه لا يملك أن يطالب بما لا يدخل في حدود الاشتراط كالمطالبة بفسخ العقد على سبيل المثال كون تلك العلاقة تقوم بين المشترط والمتعهد، ويحق للمتعهد أن يواجه طلب المستفيد بالحق المقرر لصالحه بالدفع بعدم التنفيذ كون الحق مرتبط بتنفيذ المشترط لالتزاماته ومن ثم فإن أي التزام بالعقد يؤثر على حق المستفيد يمكن للمتعهد أن يستخدمه في مواجهته وتؤكد احكام النقض في ذلك أنه”إذا جعل شخص من شخص آخر مُستحقاً لقيمة التأمين الذي تعاقد عليه مع شركة التأمين – فهذا اشتراط لمصلحة الغير، اشترطه المؤمن على الشركة لمصلحة المُستحق، ولا يرتب حقاً للمُستحق قِبل المشترط أو ورثته من بعده بسبب إلغاء بوليصة التأمين لامتناع المشترط عن دفع أقساط التأمين، إلا إذا كان الاشتراط قد حصل مقابل حق للمُستحق على المُشترط. وليس هو حوالة من المشترط للمستحق تفيد بذاتها مديونية المشترط له بمقابل قيمتها”. (الطعن رقم 29 لسنة 16 قضائية – جلسة 9/1/1947).
نتطرق بعد هذا العرض العام لفكرة الاشتراط لمصلحة الغير إلى حالة اتفاق المشترط مع المتعهد على التحكيم كوسيلة لتسوية النزاع وأثر ذلك على المستفيد، لا جدال في أن العلاقة التنظيمية بينهما (بموجب العقد) تخضع لهذا الاتفاق فلا مجال للحديث في ذلك إلا أن التفكير يوجب تساؤلاً هاماً هل يلتزم المستفيد باتفاق التحكيم رغم عدم توقيعه عليه وذلك حال مطالبته المتعهد بتنفيذ التزامه؟
بالحديث عن فكرة انتفال اتفاق التحكيم إلى المستفيد رغم عدم مشاركته فيه خروجاً على قاعدة نسبية اتفاق التحكيم يجب أن نوضح أن وسيلة المستفيد في المطالبة بحقوقه الناتجة عن الاشتراط تخضع لأحكام العقد الذي تقرر بموجبه الاشتراط ونتيجة لذلك حق للمتعهد أن يواجه المستفيد بجميع الدفوع الممكنة بالعقد والمتعلقة بحق المستفيد حتى ولو تعلقت بالمشترط وعليه أرى أن اتفاق التحكيم وإن كان المستفيد بعيداً عنه كطرف إلا أنه الوسيلة التي ارتضاها المتعاقدين (المشترط والمتعهد) لتسوية النزاع حول العقد برمته بما فيها حقوق المستفيد وعليه يلتزم باتفاق التحكيم كوسيلة للمطالبة بحقوقه، يقاس هذا الاتجاه على فكرة جواز الاتفاق بين المشترط والمتعهد على عدم أحقية المستفيد في المطالبة بحقوقه الناتجة عن الاشتراط حال الاتفاق على ذلك فعقد الاشتراط هو المصدر للحق والمحدد للالتزامات وهو عقد يخضع في إبرامه وطريقة تنفيذه إلى إرادة المشترط والمتعهد لا المستفيد وبالتالي يحق لهما تقييد أحكام الاشتراط أو التوسع فيها على النحو المتفق عليه بينهما. (في ذات المعني الدكتور/ عبدالرزاق احمد السنهوري – المرجع السابق – فقرة378)
وقد أكد الأستاذ الدكتور/ فتحي والي في ذلك أنه من المسلم أن الاشتراط لمصلحة الغير يرتب حقوقاً مباشرة للغير في مواجهة ولهذا فإنه يمكن للغير المشترط لصالحه في اتفاق يتضمن اشتراطاً لمصلحة الغير أن يطلب إعماله لصالحه فيطالب المتعهد بحقه بواسطة التحكيم ويمكن أن يكون الغير المشترط لصالحه طرفاً في خصومة التحكيم سواء بأن يطلب بدءها أو بأن يتدخل في خصومة التحكيم التي بدأت من أحد طرفي الاتفاق، ويلتزم الغير باللجوء إلى التحكيم وفقاً لشرط التحكيم الوارد في العقد فإذا لجأ إلى محكمة الدولة فإن للمتعهد أن يتمسك في مواجهته بشرط التحكيم إعمالاً للمادة (154/2) من القانون المدني التي تنص على أن” للمتعهد أن يتمسك قبل المنتفع بالدفوع التي تنشأ عن العقد.” ( يراجع دكتور* فنحي والي – قانون التحكيم بين النظرية والتطبيق – منشأة المعارف بالإسكندرية – سنة 2007 – الطبعة الاولي – ص 166)
يمكن أن ينتقد البعض هذا التوجه بالقول أن الأصل في الاشتراط لمصلحة الغير أنه يكتسب الحق دون أن يلتزم بالتزام ومن ثم فهو لا يلزم بشرط التحكيم (ممن عرضوا لهذا الرأي دكتور/ فايز الكندري – مفهوم شرط التحكيم وقوته الملزمة بالنسبة للغير – بحث منشور بمجلة العلوم القانونية والاقتصادية – كلية الحقوق – جامعة عين شمس – مج 42 – عدد 2 – سنة 2000 – ص 233) إلا أن هذا الرأي مردود بأن اتفاق التحكيم هو الوسيلة المتفق عليها لتسوية النزاع بين المشترط والمتعهد وهو ايضاً الوسيلة المتفق عليها بينهما لتسوية أي نزاع ينشأ عن حقوق والتزامات الطرفين بالعقد ومن ثم وبما أن التزام المتعهد لصالح المستفيد فاتفاق التحكيم هو وسيلته للمطالبة بهذا الحق، هذا من ناحية، ومن ناحية اخري فإن المتعهد يملك تجاه المستفيد بموجب نص المادة (154) جميع الدفوع الممكنة بخصوص الحق ليدرأ عن نفسه المسئولية بما فيها من دفوع شكلية وموضوعية ومن ضمنها اتفاق التحكيم، فلا يستقيم القول بعدم التزام المستفيد بهذا الشرط كونه يعد مخالفة لإرادة المتعاقدين الثابتة فيما يخص تسوية النزاع حول العقد مما يؤكد ضرورة امتداد اتفاق التحكيم للمستفيد، وفي ذلك قضي بأحد الدعاوى التحكيمية بأنه” ينصرف اتفاق التحكيم بين المؤمن والمؤمن له إلى المستفيد الذي قبله إذا كان عقد التأمين يتضمن اشتراطاً لمصلحة الغير وكان هو المستفيد الوحيد لا يشاركه أحد في مزايا العقد وأثاره.” ( القضية التحكيمية رقم 96 لسنة 1997 – مركز القاهرة الإقليمي 0 مجلة التحكيم العربي – العدد الأول – ص 151 بند 3).
الخلاصة:
يرى الكاتب أن اتفاق التحكيم يمتد إلى الغير في حالة الاشتراط لمصلحة الغير (المستفيد) كونه الوسيلة المتفق عليها بين المتعاقدين للمطالبة بالحق وتنفيذ جميع الالتزامات المتبادلة بين الطرفين بما فيها ما اشترط لمصلحة هذا الغير وبما ان حق المستفيد يستمد قوته الملزمة من اتفاق المشترط والمتعهد فهو ملزم بما اتفقا عليه في شان تسوية النزاع حول العقد ويعد هذا خروجاً على قاعدة نسبية أثر اتفاق التحكيم كما ان الاشتراط لمصلحة الغير خروجاً على المبدأ العام نسبية أثر العقد.