الهندسة القانونية  (منهجية عمل ووسيلة أداء )

بقلم: الدكتور/ محمد عبد الكريم أحمد الحسيني

الهندسة القانونية أو “هندسة القانون” حلم يُراوِدُ كلَّ قانونيٍّ نابهٍ يرجو تحقيقَ العدلِ وسيادةَ حكم القانون وصِناعةَ قانونيين مؤهلين في تخصصاتهم مُحترفين في مِهنتهم ، جديرين أن يقودوا مسيرة فرضِ القانون وحفظ الحقوق وصون الحريات وبسط العدالة وترسيخها .

“الهندسة القانونية” ليست ترفا اصطلاحيا ولا هي ” شِنْشِنَة ” يُطنْطِن بها كلُّ دَعيٍّ يرغب في إثارةٍ  وبريقٍ ولفتِ الانتباه  …بل هي علم مُحقَّق وفنٌ مطبَّقٌ في كثير من العلوم الاجتماعية وبخاصة “علم الاقتصاد” ، فقد دخلت هذه الهندسة منهجيا وإنتاجيا إلى  أسواق رأس المال فجددت منها وساعدت في تطويرها، وغيرت من أدائها … فأبدعت في ابتكار وتخليق أدوات مالية جديدة مناسبة لسوق رأس المال …كان لها الأثر الكبير في تعظيم الإنتاجية وفي إحداث الطفرات الاقتصادية …!!!

حيث رفدت نلك الهندسة السوق ورفعت من مؤشراته وساعدته في تحقيق الادخار وتمويل المشاريع وفي استثمار الفوائض المالية ، ناهيك عن التجارب الرائدة في ذلك لدول إسلامية عربية وغير عربية تمثلت ريادتها وتجلت نوعيتها في  إدخال المنهجية الهندسية إلى أسواقها المالية فأثمرت لديها وأحدثت صعودا في مؤشرات أسواق راس المال الإسلامية ، كما في ماليزيا ودبي وفي غيرها من الدول .

الهندسة  القانونية  في حقيقتها منهجية علمية  صارمة ،  وأداة تطبيقية فعَّالة ، ووسيلة عملية للقفز فوق المعوقات والسير الجماعي بإيقاع واحد وقدم مرنة  للأفكار والاستراتيجيات والخطط والبرامج والأدوات إلى عالم الفعل والتطبيق ….

ومن ثم إلى رحابة الإنتاج النوعي …  وهو إنتاج واقعي مشاهد وملاحظ  …… محسوس الأثر … ملموس العاقبة ….. ظاهر للعيان.

تلك هي نتائج الهندسة القانونية ، وإن حدث في تجربة ما سابقة أو قادمة بإذن الله أنه لم تتجلَ لنا نتائجها ولم نقع على أثر لها أو كانت مجرد صيحات وتسكينات وجعجعة منمقة بلا طحن فلا خير فيها ، ولا رجاء فيها ، ولا طائلة وراءها ….  وحينئذ نحن نتحدث عن الزيف والأماني والترهات اليوتوبية ( من اليوتوبيا لا اليويتوب ..!!) ….

وهذا الزيف لا زيف الهندسة لأنها علم وفن مطبق ومحقق،  ولكنه زيف من سيقومون على الفكرة ومن سيتلون إدارتها ومن سيتشدقون بها ….لفظيا لا عمليا …وقوليا لا فعليا ….

فهم في الظاهر مهتمون ولكن قصاراهم – وهذا ما لا نرجوه – أن تكون “سبوبة “وتكئة  لحوز الألقاب وتحصيل البدل وملء الجيوب …!!!

 

  • كيف نحقق التطوير القانوني الشامل من خلال الهندسة القانونية ؟

لتحقيق التطور القانوني من خلال الهندسة القانونية  يجب ابتداء القيام بعدة إجراءات :

أولها : فهم ماهية وهوية تلك الهندسة التي ندعوها بـــ”الهندسة القانونية” أو “هندسة القانون “.

وهذا يعني واسترفاد تجاربها واستجماع مصادرها واستقراء مراجعها وجمع سائر أوعيتها المعرفية ، ثم الوقوف عليها بالدرس الفاحص الواعي المعتبر ، ثم بالقراءة الواقعية لها في ضوء واقعنا العربي وبالأحرى واقعنا المصري .

وهنا أقترح :

تكوين مكتبة إلكترونية ومكتبة عادية ( ورقية ) ولكن بنظام حديث ملائم وتكون تابعة لإحدى الجامعات،  ولتكن ( مثلا ) جامعة القاهرة – كلية الحقوق … في قاعة خاصة نسميها :” مكتبة الهندسة القانونية ” وتكون المركز الرئيس لهذه المكتبة ….على أن يفتح لها فروع مماثلة في جميع الجامعات ومراكز البحث القانوني وفي هيئات وجهات وسائر مؤسسات كيانات القانون في الدولة.

فتتبنى جامعة القاهرة من خلال كليتها العريقة ” كلية الحقوق ”  فكرة تكوين المكتبة الإلكترونية ، وتنفيذ المكتبة الورقية بادئة في استقراء  وجمع  سائر الأوعية المعرفية المطبوعة والحاسوبية في صميم ذلك الموضوع وفي سائر متعلقاته فتكون قوائمها شاملة  :

  • الهندسة القانون أو ” هندسة القانون”

ب- ما يتعلق بموضوع الهندسة القانونية .

ج-وحبذا لو جمعت معها أوعية العلوم ذات الصلة مثل المنهجيات القانونية ، الدراسات القانونية الاستشرافية … التكنولوجيا القانونية ….  فلسفة القانون ومؤسسات القانون والتجارب القانونية والأفكار والمقترحات ذات الصلة بتطوير النظام القانوني متكاملا أو في بعض أجزائه أو في جانب ما من جوانبه  .

ثانيا: الوقوف على التجارب المتكاملة للدول الجارة والدول الشقيقة والصديقة

ذات النظام القانوني المشابه لنا ، وهذا من الأهمية بمكان ، كما وينبغي تبصُّر وتفحُّص هذه التجارب والوقوف على ظروفها ومساقاتها وبيئتها العامة والخاصة مع سائر جوانبها ، لأن هذا يعين على نقل عناصر التجربة وإعادة تسكينها في الرؤية الاستراتيجية المزمع تكوينها وتخليقها لتطبيقها على واقعنا الماثل .

أضف إلى ما سبق ضرورة الوقوف على تجارب الهندسة القانونية أو هندسة القانون الإنتاجية في  مجالات العلوم الاجتماعية المقاربة للعمل القانوني كما في  “علم الاقتصاد” وخاصة في مجال “الأسواق المالية ” أو “أسواق راس المال” .

وهنا أقتراح الآتي :

1-تفعيل نظام البعثات الدراسية في العلوم القانونية الإنتاجية حيث دراسات النظم والمؤسسات والتخطيطات والاستراتيجيات الإنتاجية في مجال تطوير العلوم القانونية ورجالات القانون ومؤسسات وكيانات القانون … ودراسات تكنولوجيا القانون …واستشرافات القانون … إلى غير ذلك …. هذا على حسب ما يوجد من  تلك التخصصات …

2-مخاطبة سائر الدول –التي نستهدف الإفادة من تجربتها – مخاطبات رسمية من خلال المؤسسات القضائية أو وزارة العدل وهي المعنية ابتداء بذلك في إطار المؤسسات القانونية التي تعنى وتقوم على رعايتها المؤسسات الجامعية أو مجلس الوزراء أو حتى رئاسة الجمهورية ، الأمر يستحق ولا يجوز التواني عن ذلك .

 

ثالثا: وضع خطة استراتيجية شاملة باعتبارها (خطة قومية ) وتظافر الجهود الصادقة لتحقيقها .

وينبغي أن تترجم هذه الخطة في صورة برامج تنفيذية لتحقيق حلم الهندسة القانونية  ، مع إسناد هذه البرامج لفرقاء أكفاء متخصصين ، مع توحيد جهات الإدارة والتسيير والمراجعة والتنفيذ وغير ذلك من مفتضيات …..

ولخطورة هذا الاقتراح ستكون لنا معه وقفة مطولة ومفصلة لاستجلاء جوانبه واستكمال روافده …عسى أن ينتج برنامجا شاملا أو شبه شامل يعين على تفعيل تلك الهندسة القانونية المأمولة ويحقق ناتجها ويصعد بنا إلى مصاف الدول ذات الريادة القانونية في سائر المجالات .

 

(2)نطاق تطبيق الهندسة القانونية

فبل أن ندلف إلى ذكر البرنامج التطبيقي لتفعيل الهندسة القانونية ينبغي أن نحدد نطاق عملها ،وهو على سبيل الإجمال نطاق ثلاثي ينطوي تحته غيره من نطاقات :

النطاق الأول : العلوم القانونية .

النطاق الثاني : رجالات القانون .

النطاق الثالث: المؤسسات القانونية .

قد يسأل سائل ويقول لكن القانون معنى عام وشامل وهو ضابط مجتمعي مطلق يتسع للأفراد وللمجتمع ولجميع مؤسساته وعناصره وكياناته ..!!

نقول له هذا صحيح … ولكن الهندسة القانونية لا تزال في طور الإعمال وبالأحرى طور التجريب  ،فهي علم محدث ، وهي تجربة جديدة … ولم يسبق لها أن طبقت أو تمكنت حتى تحكم جميع ما سبق ، ومن ثم ينبغي التركيز على أركان القانون وجوهره وعوارضه وروابطه الرئيسة الظاهرة .

على أن نفصل ذلك في المقال التالي بإذن الله تعالى متوقفين مليا عند الخطة المقترحة لإنفاذ الهندسة القانونية في أرض الواقع .

زر الذهاب إلى الأعلى