النقيب مرقص باشا حنا أنشودة الوطنية(7)
بقلم الأستاذ: رجائى عطية نقيب المحامين
نشر بجريدة الأهرام الأثنين 13/12/2021
ــ
جدير بالذكر أن مواقف هذا الوطنى الكبير لم تتغير وهو على دست الحكم ، عما كانت عليه وهو فى صفوف المعارضة ، ولولا هذا الرجل إبان أن كان وزيرًا للأشغال العمومية فى وزارة سعد الأولى ، لنهبت مقبرة تون عنخ آمون كما نهب غيرها من الآثار المصرية التى لا تزال نكابد ونقاتل لاستردادها بعد أن طارت إلى متاحف وميادين وقصور أوروبا .
قرأت فيما نقل عن الصحفى مؤنس زهيرى ، قصة لايكاد المتحدثون عن اكتشاف المقبرة الشهيرة يشيرون إليها ، متوقفين فقط عند قصة الاكتشاف دون ذكر ما أحاط به للمحافظة عليها وعلى حقوق مصر والمصريين فيها ، والتى كانت معرضة للسرقة . بلغ مرقص باشا حنا وزير الاشغال ، وكانت الآثار تتبع وقتذاك وزارة الأشغال العمومية ، بلغه أن « هوارد كارتر » مكتشف المقبرة ، بدأ يستغل وضعه بمنع المصريين من زيارة المقبرة ، والتصريح فقط بالزيارة لمن يشاء من الأجانب ، فى الوقت الذى لا يفوت فيه أحد أن الأيام الأولى هى أوسع الفرص للنهب والتهريب قبل حصر وتسجيل مفردات الآثار ، فانتفض مرقص باشا غاضبًا وآمرًا بفرض حراسة مصرية على المقبرة ، فكل قطعة من قطع آثار المقبرة لاتدانيها أموال الدنيا ، وجعل مرقص باشا للضباط المصريين سلطة تفتيش كل الداخلين والخارجين منها ، بمن فيهم « هوارد كارتر » نفسه ، وأنهى تمييز الأجانب على المصريين ، وكفل حراسة الآثار على الجميع ، ولم يستثن من هذه الرقابة المصرية أحدًا ، حتى المتفاخر بأنه صاحب الكشف عن المقبرة .
يومها ثارت الصحف العالمية ، وعلى الأخص صحف بريطانيا العظمى حاكمة العالم وصاحبة الكلمة العليا فى مصر ، ثورة عارمة ، على هذا الاجتراء على المقام السامى لرعاياها ، ولا يريدون إلاَّ أن يتاح لمندوبيهم وصحفهم الإنجليزية الدخول والخروج بلا حسيب ولا رقيب .
إلاَّ أن مرقص باشا حنا أنشودة وطنية ، لم يتراجع ، ولم يرضخ ، بل وشدد الحراسة ومنع دخول الأجانب إلى المقبرة إلاَّ بتصريحات خاصة ومختومة بالأختام الوطنية ، وبتفتيش دقيق من الحرس المصرى القائم على مداخل وأبواب المقبرة الملكية . وأمر بحصر وتسجيل كل قطعة آثار وكل تحفه من تحف المقبرة مع بيان مواصفاتها الدقيقة ، رغم أنف « هوارد كارتر » ومن تشيعوا له ، حافظًا لمصر والمصريين كامل حقوقهم محروسة بحراسة مصرية خالصة ومشددة .
هذه صفحة من صفحات هذا الوطنى الكبير ، أحد رموز مصر لنحو خمسين عامًا . ابن قمص كنيسة طنطا الذى كفل له التعليم فى فرنسا ، باقيًا على ولائه لكنيسته ووطنه .
وأقف وقفة قصيرة هنا ، لأبدى أن القارئ لابد وقد لاحظ كما لاحظت إقتران اسم مرقص باشا حنا فى الحركة الوطنية ، وفى حزب الوفد ، بمكرم عبيد . فمع فارق السن بين مرقص مواليد 1872م ، ومكرم عبيد مواليد 1889م ، فإنهما قد جمعت بينهما روابط عديدة ، ما بين المحاماة ، ونقابتها ، والحركة الوطنية ومشاهدها ، ولعل أظهر هذه الروابط قد بدأ يقوى منذ عام 1923 ، وهو عام صدور الدستور المصرى ، وعام دخول مكرم عضوًا منتخبًا بالبرلمان بموجب ذلك الدستور ، والذى لا يعرفه كثيرون أنه العام الذى بنى به بالآنسة « عايدة » ابنة مرقص باشا حنا . ولابد أن تؤدى هذه المصاهرة إلى مزيدٍ من قوة الرباط بين مرقص حنا ومكرم عبيد زوج ابنته (الوحيدة فيما أظن) ولا شك أن عدم إنجاب عايدة و مكرم قد زاد إرتباط الابنة وزوجها باسرتها الأم ، ليوثق عرى زمالة المحاماة وزمالة النقابة ، وزمالة الحركة الوطنية والنفى المشترك من أجلها .
رأينا مرقص باشا حنا نقيبًا منذ عام 1919 ، ولخمس دورات متتالية ، ثم لدورة سادسة عامى 1925 ، 1926 ثم قبل أن يتوفى مرقص حنا فى عام 1934 ، فاز مكرم عبيد بموقع نقيب المحامين فى 15 ديسمبر 1933 قبل أن يفارق حموه الدنيا بشهور قليلة ، ليكون النقيب الحادى عشر بعد صهره النقيب الخامس .
وجمعت بينهما المحافظ الوزارية ، فرأينا مرقص بك وزيرًا للأشغال العمومية فى وزارة سعد باشا الأولى فى 28 يناير 1924 ، ثم وزيرًا برتبة باشا فى وزارة عدلى يكن الثانية ( 1926 / 1927 ) ، وبرحيل عدلى باشا كلف عبد الخالق ثروت باشا بتشكيل وزارته الثانية التى حمل فيها مرقص باشا حنا حقيبة وزارة الخارجية .
وعلى خط ثان ، بدأ نجم مكرم عبيد يزداد لمعانًا ، فأنتخب عام 1927 سكرتيرًا عامًا للوفد ، وعين بوزارة مصطفى النحاس الأولى عام 1928« مكرم عبيد أفندى » وزيرًا للمواصلات ، ولكن سرعان ما إزداد نجمه صعودًا ، فحمل محفظة وزارة المالية وقد نال البشوية عام 1937 ، عدة مرات ، قبل أن يختلف أخيرًا مع الوفد ويستقل بإنشاء حزب ــ الكتلة الوفدية عام 1944 كما هو معروف .
يفترض ما أوجزته لك عن سيرة الرجلين ، علاقة خاصة وثرية ، لا سيما وقد نال كل منهما اجازة الحقوق من الخارج ، وتعلم لغة البلاد التى درس فيها ، وجمعت بينهما المحاماة ، ومصاهرة متينة ، وجمع بينهما أن مرقص حنا كان على رأس مدرسة العلم والثقافة فى المحاماة ، بينما عرف مكرم عبيد بأنه الوزير الأديب ، المولع بالموسيقى والفنون ، الذى قامت وشيجة بينه وبين موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذى كان يتردد على منزله ليسمعا الموسيقى معًا .
ماذا بعد ؟! ألا يعنى هذا أن أواصر أخرى متينة إنسانية وخصبة وثرية ، قد جمعت بين القمتين ، ويمثل الالمام بها متعة ذات روافد متعددة ، فضلاً عن تعميق الدراسة عنهما وإيفائها حقها الواجب . فماذا وجدت ؟!