النقيب مرقص باشا حنا.. أنشودة الوطنية ( 8 )
بقلم : الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 20/12/2021
ـــ
روى لنا الأستاذ شوكت التونى فى كتابه « المحاماة فن رفيع » ـ كيف جاء مرقص باشا حنا على رأس مدرسة الجيل الثانى فى المحاماة ، جيل كمال العلم ، وجمال الفن فى الأداء ، ونضوج الأدب ، وقوة الخُلق . هذا القاسم المشترك فى شخصية هذا الوطنى الكبير تجلّى فى أدائه فى المحاماة ، الذى وصفه شوكت التونى بأنه ترافع بالساعات فى قضية مقتل السردار ، وفى قضية الاغتيالات الكبرى التى اتهم فيها ماهر والنقراشى ، فلم يعل صوته ، وهى سمة أهل العلم والفن ، أما الصراخ فصدى فارغ يحسبه البعض مرافعة ، وهو لا ينتمى إلى المرافعات ، وقد اشتهر فى هذه المدرسة العظيمة نجوم كمحمد بك عبد الله محمد ، وعبد الفتاح باشا حسن ، والأستاذ الكبير أحمد رشدى ، وآخرين . ونستطيع أن نرى معالم هذه المدرسة فى شخصية مرقص حنا ، حين نراجع المحافظ الوزارية التى حملها ، فقد حمل حقيبة وزارة الأشغال العمومية ، وحقيبة وزارة المالية ، وحقيبة وزارة الخارجية ، وهى وزارات يجمع بينها لزوم العلم والمعرفة واتساع الخبرة وثاقب الرؤية ، وهو ما أكده أيضًا اختياره عضوًا فى مجلس الجامعة الأهلية المصرية ، ونهوضه بتأسيس كليات البنات القبطية ، واضطلاعه بالدعوة لرفع مستوى الإناث ثقافيًّا وأدبيًّا واجتماعيًّا ، لتؤدى دورها الحيوى المطلوب فى المجتمع ، وجاهد جهاد الأبطال فى إصلاح شئون طائفته ، وأظهر عزمًا محمودًا فى إعادة تشكيل المجلس الملى العام منذ سنة 1905 ، وانتُخب عضوًا فيه ، فأدى جليل الخدمات ، وسخر علمه وخبرته لإصلاح أحوال الوطن الاجتماعية ، والتفت التفاتًا محمودًا لتهذيب وتوعية وتثقيف ربات البيوت ؛ وتنمية مواطن الإخاء بين عناصر الأمة .
فلم يكن مرقص حنا النقيب البطل وكفى ، والذى انفرد بين جميع النقباء بالحكم عليه بالإعدام ، لولا أن قدرت بريطانيا العواقب الوخيمة ، ونزلت بالعقوبة إلى الأشغال الشاقة سبع سنوات ، حتى لا تندلع الأمور ، وإنما كان مرقص حنا علامة أيضًا فى خُلقه وعلمه وثقافته ومعرفته وسلوكه .
كان فى طليعة الأقباط الذى احتجوا على قبول القبطى يوسف باشا وهبة تشكيل الوزارة على خلاف إرادة المصريين الذين انحازوا لمصر ضد لجنة ملنر حتى حملوه على الاستقالة .
روى النقيب المؤرخ عبد الرحمن الرافعى فى فصول تاريخه ، أنه حين تسرب فى 21 نوفمبر 1919 ، قبول يوسف وهبة باشا تشكيل الوزارة ، واحتفاظه لنفسه بالمالية إلى جانب الرئاسة ، وضم بالتشكيل إسماعيل سرى للأشغال والحربية ، وأحمد ذو الفقار للحقانية ، ومحمد توفيق نسيم للداخلية ، وأحمد زيور للمواصلات ، ومحمد شفيق للزراعة ، ويحيى إبراهيم للمعارف ، وحسين درويش للأوقاف ، وقد كانوا جميعًا ـ عدا يحيى باشا إبراهيم ومحمد شفيق باشا وحسين درويش ـ كانوا أعضاءً فى الوزارة السابقة التى صرح رئيسها بالاستقالة احتجاجًا على قدوم لجنة ملنر ، ولكن التهافت على مقاعد الحكم دعاهم إلى هذا العدول ، والذى قوبِل بالسخط العام ، باعتباره تحديًا للأمة ، وكان الأقباط أكثر استياءً ، فاجتمعوا وفى طليعتهم مرقص بك حنا وكيل نقابة المحامين ، والذى انتخب بعد أيام نقيبًا لخمس دورات متصلة منذ 12 ديسمبر 1919 ، اجتمعوا فى الكنيسة المرقسية الكبرى ، برئاسة القمص باسيليوس وكيل البطريركية ، وتبادلوا الخطب وأعلنوا سخطهم على قبول يوسف وهبة باشا تشكيل الوزارة ، ولم يكن المرسوم قد صدر بعد ، واتفق الحاضرون على إرسال برقية إلى يوسف وهبة باشا ، نصها:
« الطائفة القبطية المجتمع منا ما يربو على الألفين فى الكنيسة الكبرى ـ تحتج بشدة على إشاعة قبولكم الوزارة ، إذ هو قبول للحماية ولمناقشة لجنة ملنر ، وهذا يخالف ما أجمعت عليه الأمة المصرية ؛ من طلب الاستقلال التام ، ومقاطعة اللجنة ، فنستحلفكم بالوطن المقدس وبذكرى أجدادنا العظام أن تمتنعوا عن قبول هذا المنصب الشائن ! » .
فى الوقت الذى أعلن فيه المحامون بالإجماع ـ فى جمعيتهم العمومية يوم 21 نوفمبر 1919 ــ الإضراب عن العمل لمدة أسبوع من اليوم التالى لحضور اللجنة احتجاجًا على مجيئها ، على أن يجتمعوا قبل انتهاء الأسبوع بيوم واحد ليقرروا الخطوة التالية .
وسرعان ما استأنفت السلطة العسكرية حركة القبض والاعتقال لمناسبة تأليف وزراة يوسف وهبة وقرب قدوم لجنة ملنر ، وإستدعى اللورد اللنبى قُبَيل تأليف الوزارة : محمود سليمان باشا رئيس لجنة الوفد المركزية وإبراهيم سعيد باشا وكيلها ، وعبد الرحمن بك فهمى سكرتيرها ، وحملهم تبعة مسئولية ما ينشر فى الصحف من المنشورات التى تثير الخواطر !! وطلبت من محمود سليمان باشا وإبراهيم سعيد باشا مغادرة القاهرة والإقامة فى بلديهما وألزمت عبد الرحمن بك فهمى بالبقاء تحت المراقبة ، كما اعتقلت على بك ماهر ورحّلته إلى الأقصر ، واعتقلت أيضًا الشيخ مصطفى القاياتى والشيخ محمود أبو العيون والشيخ محمد عبد اللطيف دراز .
كان الأستاذ مرقص حنا حاضرًا فى كل المشاهد والمواقف الوطنية ، فبعد برقية إحتجاجه فى 15 فبراير 1921 ، على تشرشل إلى رئيس الوزراء لويد جورج ، أقام مأدبة استقبال حافلة لسعد زغلول فى 15 أبريل 1921 ، ويروى عبد الرحمن بك فهمى فى المجلد الثالث من مذكراته ، كيف ارتجل مرقص حنا يومها خطابًا بليغًا ، وجاوبه سعد زغلول بخطاب ضافٍ ، ونراه فيما روى فخرى بك عبد النور فى مذكراته ــ نراه متحدثًا بلغ الغاية فى عيد النيروز فى 11 سبتمبر 1921 ، حتى أثار حديثه حماس سعد باشا زغلول ، فألقى بدوره خطابًا حارًّا تكررت فيه الإشادة بمرقص باشا حنا ومواقفه الوطنية ، وحمد له ما أبداه وأخجله من أنه كان العامل فى النهضة الحالية ، وليقول « لقد تكلم الأستاذ مرقص حنا عن المفاوضات وما وقع فيها بين المصرى وغيره ، وشفى الغليل بما قال .