النقيب مرقص باشا حنا أنشودة الوطنية (5)
بقلم :الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 29/11/2021
ـــ
عادت بريطانيا إلى عادتها ، ففى أعقاب فشل مفاوضات عدلى يكن فى انجلترا فى ديسمبر 1921 ، أعادت نفى سعد زغلول ورفاقه إلى جزيرة سيشيل .
ولكن قبل حلول عام 1921 ، تفجرت عام 1920 ما سمى بقضية المؤامرة الكبرى ، وعلى رأس المتهمين فيها عبد الرحمن بك فهمى كاتم أسرار ثورة 1919 ومنظمها ، وكانت هذه القضية من أكبر المحاكمات فى عهد الثورة ، وكان النقيب مرقس حنا فى مقدمة المحامين الذين نهضوا بالدفاع فى تلك القضية .
وقد أرادت بريطانيا من إتهام عبد الرحمن بك فهمى ومن معه ، وإحالتهم إلى محكمة عسكرية أن تحيط بالعناصر التى تراها أكثر نشاطًا فى الحركة الثورية ، فتقضى عليها ، عن طريق المحاكمة ، وأرادت من ناحية أخرى أن تؤثر فى سير المفاوضات بين الوفد المصرى ولجنة ملنر ، وفى نفسية الأمة عامة بإزاء هذه المفاوضات وبإزاء مشروع المعاهدة بين مصر وانجلترا ( مشروع ملنر ) ، فليس يخفى أن الدعوة إلى هذه المفاوضات بدأت فى شهر مايو سنة 1920 ، وسافر الوفد إلى لندن للمفاوضة مع لجنة ملنر فى يونيه ، وانتهت المفاوضة بعرض مشروع ملنر على الوفد فى أغسطس من هذه السنة ، وراى الوفد أن يستشير الأمة فى هذا المشروع ، فحدثت الإستشارة فى شهر سبتمبر ، ومن غريب الملابسات أن تحقيق السلطة العسكرية فى قضية عبد الرحمن بك فهمى بدأ أيضًا فى مايو سنة 1920 ، وأحيل المتهمون إلى المحكمة العسكرية التى انعقدت فى يوليه ، واستمرت المحاكمة نحو ثلاثة أشهر حتى 6 أكتوبر سنة 1920 ، وكانت المحاكمة على أشدها فى الوقت الذى عرض فيه مشروع ملنر على الوفد ثم على الأمة ، ولم يكن هذا من قبيل المصادفات ، بل هى ملابسات وتدابير ، تدل على أن الغرض السياسى من هذه المحاكمة هو التأثير فى سير المفاوضات لحمل جمهرة الرأى العام على التساهل فى أمر مشروع ملنر وقبوله ، تخلصًا من وطأة الأحكام العرفية والمحاكمات العسكرية التى كانت تهدد كل مشتغل بالحركة الوطنية ، وقد كانت هذه المحاكمة ، وما أحاطها من ظروف تبعت إلى الرهبة والقلق على مصير المتهمين ، من العوامل التى مالت بالبعض إلى قبول المشروع فى مجموعه ، لأن مثل هذه المحاكمة ، فى وجود الاحتلال البريطانى ، وقيام الأحكام العرفية ــ من وسائل الإكراه التى وقعت على البلاد ، حين عرض المشروع عليها .
أما موضوع هذه القضية ، فهو أن السلطة العسكرية اتهمت فى مايو سنة 1920 عبد الرحمن بك فهمى وسبعة وعشرين معه بأنهم أعضاء فى جماعة سميت « جمعية الانتقام » ، كان الغرض منها خلع عظمة السلطان وقلب حكومته والتحريض على العصيان والقتل ، وقام الاتهام على شهادة شخص يدعى عبد الظاهر السمالوطى ، قيل إنه كان ضمن أعضاء الجمعية وخانهم وأفشى سرهم ، والواقع أنه جاسوس مأجور ، وبلغ عدد المتهمين فى هذه القضية ثمانية وعشرين على رأسهم عبد الرحمن فهمى .
وبرغم أن المحكمة العسكرية الإنجليزية انتهت من نظر الدعوى 6 أكتوبر 1920 ، وأعلنت براءة منير جرجس عبد الشهيد وأنيس سليمان وقرياقوص ميخائيل ومحمد الميرغنى ، وإدانة الباقين ، إلاَّ أن الأحكام لم تعلن إلاَّ فى فبراير 1921 ، وكان الحكم فيها بإعدام عبد الرحمن بك فهمى ، وعدل الحكم إلى السجن مع الشغل 15 سنة ، وأفرج عنه والباقين بعد فترة .
وبعد شهور من إعلان هذه الأحكام ، أعادت بريطانيا نفى سعد زغلول وصحبه إلى سيشيل .
وكان مرقص باشا حنا من المحامين الذين كبدتهم الوطنية المصرية ، اختلاف مراكزهم فى القضايا التى يحركها الإنجليز ضد الوطنيين ، فتزج بهم فى اتهامات ملفقة ، فيجد هؤلاء المحامون ــ يجدون أنفسهم متهمين ، فإن فاتهم الاتهام ، تراهم فى مقدمة الصفوف للدفاع عن المتهمين الذين أحيلوا إلى المحاكم العسكرية .
مرقص باشا حنا الذى كان فى المقدمة من هيئة الدفاع التى دافعت عن المتهمين فى قضية عبد الرحمن بك فهمى (1920/1921) ، سرعان ما نراه عرضة للاعتقال والاتهام والمحاكمة فى قضية مفتعلة لا أصل لها !
يروى لنا أحمد شفيق باشا فى حولياته ، أن حركة الوفد لم تهمد بعد الاعتقال الثانى لسعد زغلول وصحبه ونفيهم إلى سيشيل ، ورأى الانجليز أن الأمور لن تهدأ بهذا النفى ، وأن هناك فى الوفد من يستهينون بالصعاب فى سبيل خدمة القضية المصرية ، ومن ثم قام الإنجليز فى 24 يوليو 1922 باعتقال سبعة من أعضاء الوفد : حمادة الباسل باشا ، مرقص بك حنا ، واصف غالى ، مراد الشريعى ، ثم كل من محمد بك علوى الجزار ، وويصا واصف بك ، وقذفت بهم كما رويت لك سلفًا فى ثكنات قصر النيل ، وسرعان ما أحيلوا لمحاكمة عسكرية إنجليزيه لمحاكمتهم ، بدعوى أنهم :
(1) ارتكبوا جريمة ضد القانون العرفى ، ومعاقب عليها فى قانون العقوبات المصرى ، بزعم نشرهم فى يوليو 1922 ، منشورًا يحض على كراهية واحتقار « حكومة جلالة ملك مصر » ( ؟!!!) .
(2) ارتكبوا جريمة ضد الحكم العرفى بتوقيعهم فى ذات التاريخ منشورًا الغرض منه إلقاء الكراهية ضد نظام الحكم الجديد .
ولا يكاد المصريون يبدون دهشتهم من حرص الإنجليز المحتلين , على حكومة جلالة ملك مصر ، التى يتلاعبون بها ، حتى أعلن الإنجليز فى الصحف يوم 8 أغسطس عن محاكمة المعتقلين فى اليوم التالى بمبنى محكمة الاستئناف الأهلية ، أمام محكمة عسكرية إنجليزية !