مضى الأستاذ محمود أبو النصر ، فى إثبات أن المتهم لم تفارقه حالة الانفعال والتهيج حتى ارتكاب الجريمة ، وطفق يستشهد بالفيلسوف الشهير والعالم الأخلاقى الكبير « جول سيمون » فى كتابه : « لو دفوار » (الواجب) ، الذى يقول فيه : « ليس من الصعب أن نستظهر تلك القوة الطارئة التي تؤثر على نفوسنا أحيانًا فتتغلب على إرادتنا » ؛ وضرب لذلك مثلاً قال : « أحب بلادي وهذا مثل طبيعي ينبعث من القوة في النفس من جميع المؤثرات ولكني احبها حبًا هادئًا بلا شغف ولا هيام شأن محبة الإنسان لشىء هو واثق به مطمئن عليه غير خائف من زواله في المستقبل : فإذا هبت عاصفة سياسية على بلادى فجعلتها بين أظفار المخاوف والأخطار ، كما إذا هاجمها العدو أو حاول خائن أن يلحق بها المذلة والعار والبؤس والدمار ، فإن تلك المحبة الكامنة بين جوانحي ينقلب شررها إلى نار حامية فأنسى كل شىء وأضحى كل منفعة فلا أرى ولا أسمع ولا أفكر إلاَّ فيما يتهدد الوطن من المخاوف والأخطار ، وإن شدة الانفعال وقوه الاندفاع التي تعترى الإنسان في مثل هذه الظروف تبقى وتستمر ما دام ذلك الخطر محدقًا ، فإذا تم لى الظفر سكن جأشى واطمأنت نفسى ورجعت إلى حالتى الطبيعية ؛ فيكون السلام قد سكن فى آن واحد قلبى وبلادى » .
هذه نظرية علماء النفس وفلاسفة الأخلاق فيما يختص بالأشخاص ذوى الأمزجة المعتدلة والإرادات القوية , فإذا طبقناها على حالة الوردانى وفق ما رأيتم من التحقيق وسمعتم من شهادة الحكماء ، كان الانفعال النفسي وتخدر الإرادة في هذه الحالة أظهر وأوضح بكثير .
مسألة الاضطراب العصبى وتهيج الحواس وإن كانت من المسائل التى جعل القانون تقديرها موكولاً لرأي القضاة ، إلاَّ أنها من المسائل الفنية التي من اختصاص الطب والحكمة .. أولئك الذين دفعوا أنفسهم للبحث في قوى النفس والعقل وحقيقة الإرادة والادراك وارتباك القوى بما يصدر عن الإنسان من الأفعال والأقوال ، لذلك يجدر بنا أن نأتي هنا على آخر كلمة لأحد هؤلاء الحكماء فيما انتهى إليه بحثهم في هذا الموضوع .
قال الدكتور دي بلو زول في مقالة نشرها بتاريخ 10 أبريل بمجلة الأطباء بباريس :
« إن الأشخاص الذين يرتكبون جريمة وهم في حالة إنفعال الحساسية وتهيج الشعور ، يظهر لنا أنهم ليسوا بمسئولين تمامًا عن عملهم ، لأن إرادتهم قد تغلب عليها التهيج والانفعال فضعفت عن المقاومة ، وقد يساعد على ضعفها أنهم في أغلب الأحيان يعتقدون أنهم إنما يأتون عملاً مشروعًا ».
هذه أقوال ثلاثة من فحول العلماء ، أحدهم من أعظم شراح القوانين الجنائية ، والثانى من كبار فلاسفة النفس والأخلاق ، والثالث من كبار مشاهير الحكماء وأستاذ العلوم الاجتماعية بباريس .
ترونهم متفقين على أن الانفعال والتأثر يمكن أن يستمرّا زمنًا غير قصير ، وخصوصًا عند ذوى الأمزجة العصبية كما هى حال الوردانى .
نعم إن التهيج والاضطراب لم يفارقا الوردانى ، ولم يزولا عنه حتى أتم فعلته .. ذلك لأن الأسباب والمؤثرات بقيت مستمرة ، بمساعى المرحوم بطرس باشا فى مسألة القنال وايعازه إلى كثير من الأعضاء بقبول المشروع ، مما فى ولد اعتقاده أنه خائن للبلاد .
لا أقول إن الوردانى لم يفق من انفعاله طوال هذه المدة ، أو أنه بقى هائمًا فى تهيجه بدرجة واحدة من البداية إلى النهاية ، ولكن أقول إن صورة المرحوم بطرس كانت تتمثل فى ذهنه لأقل باعث أو كلمات عنه تهيّج حواسه وأعصابه.
هذا كان شأنه فى الأيام التى مضت من يوم 10 فبراير إلى 20 منه ، وهو ما تدل عليه متفرقات التحقيق دلالة لا تحتمل ريبا ولا شكا.
انظروا ماذا كان يعمل فى تلك الأيام واحكموا إن كان يمكن الجمع بين عمله فيها وبين فكرة سبق الإصرار ، أو إن كل حركاته وسكناته تنفى وجود سبق الإصرار بمعناه فى القانون .
أرسل الوردانى بتاريخ 16 فبراير قبل الحادثة بأربعة أيام تلغرافًا إلى عبد الباقى خليفة يسأله عما تم فى أمر السلفة التى كان ساعيًا فيها لتوسيع نطاق أجزخانته ، وأخذ بالفعل يفاوض بعض الملاك لاستئجار محل منهم ينقل إليه الأجزخانة ، ومن يكون مصرًا على القتل جهارًا بالكيفية التى حصلت لا يتجه فكره لذلك المسعى ! اللهم إلاَّ إذا كان مضطرب الفكر فاقد الرشد بين حين وآخر ، وفى كلتا الحالتين يكون سبق الإصرار معدومًا بطبيعة الحال .
فى يوم 17 فبراير كتبت جريدة الأخبار وجريدة مصر الفتاة أن المرحوم بطرس باشا طلب من اللجنة التى كانت مشكلة للنظر فى مسألة القنال محاضر جلساتها ، وانتقاده انتقادًا مرًا لأخذه المحاضر دون علم اللجنة أو استئذان رئيسها .
قال الوردانى بمحضر التحقيق لما قرأت هذا الخبر ــ ازداد عندى التغيظ ، وفى يوم الجمعة اشتدت بى الحالة العصبية ، وصممت على قتله .
وهذا مما يؤيد أن تفكيره فى القتل لم يكن يحدث إلا عند تأثره وانفعاله .
ما تقدم محض « عيّنة » مما أبداه هذا المحامى الضليع الفذ ، فلا يتسع المجال لإيراد كل ما أبداه ، ومع أن الدعوى حفلت بمدافعين غيره : الأستاذ أحمد بك لطفى
( النقيب الرابع ) ، وهو غير أستاذ الجيل احمد لطفى السيد ، وأحسن الدفاع ، والأستاذ إبراهيم الهلباوى ، الذى اقتصر على قطعة رثاء أدبيه بليغة يودع بها الوردانى ، جزمًا بأنه سيحكم بإعدامه .
بيد أن دفاع الأستاذ محمود بك أبو النصر وكذا الأستاذ أحمد لطفى ، كان الأساس الذى صدر عليه رأى فضيلة المفتى الشيخ بكرى الصدفى ، رافضًا الحكم بالإعدام ، وهى حالة نادرة مبناها فى الواقع ما تقدم به الأستاذ أبو النصر وزميله من دفاع ــ بين يدى المحكمة !