النقيب الضليع محمود بك أبو النصر أستاذ القانون والمحاماة ( 11 ) 

بقلم الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين رئيس اتحاد المحامين العرب

نشر بجريدة الأهرام الأثنين14/3/2022

طفق الأستاذ محمود أبو النصر يجيب على السؤال الأول الذى طرحه . هل طرأ أم لم يطرأ على المتهم إنفعال نفسى وتهيج عصبى ، سبق القول بأن للوردانى مزاجًا عصبيًا يتغير بملامسة الحوادث ، وأكثر ما يكون اشتعالاً عندما يرى فى تلك الحوادث خطرًا على وطنه الذى يحبه ويهيم به .

وقد ثبت بشهادة الشهود ما يدل على هذه الحقيقة ، وشهد الدكتور عيسى باشا حمدى بأنه عالج الوردانى وتحقق لديه أن عنده حالة عصبية ، وأن من خواص صاحب المزاج العصبى استعداده لاضطرابات مخية ، وأنه متى حصل هذا الاضطراب فإنه لا يستريح حتى يحدث عمله .

وقال الدكتور برزو الأستاذ بكلية لوزان فى جوابه عن حالة الوردانى أنه عالجه سنة 1908 فوجده مصابًا بمرض مركزه المخ ، وأن من شأن هذا المرض جعل أعصابه فى غاية الاستعداد للتهيج والانفعال .

وشهد عمه الدكتور ظيفل , أنه عصبى المزاج حاد الطبع جدًا ، وأنه أصيب من الصغر بضيق فى النفس وأقل شئ يغضبه وينفعل منه انفعالًا شديدًا .

وشهدت والدته بالتحقيق بمثل ما شهد به عمه ، وروت أنه كان يقوم من النوم منزعجًا ، ويفزع فى الليل ست مرات ويقول الجرنال الجرنال ، وأنه أصيب بمرض فى المخ وكان عمه يعالجه .

 

وشهد حضرة على افندى الشمسى بذات المعنى .

وشهدت أم خليل بنت ابراهيم خادمة شهدت بالجلسة الماضية على واقعة دخول المتهم الحمام وشروعه فى خنق نفسه بغاز الفحم ، لأن والدته كانت تبخر أخته فنهاها فلم تنته فغضب وتهيج ثم أدى به الغضب إلى الشروع فى خنق نفسه بالفحم ، يضاف إلى ذلك مادلت عليه متفرقات التحقيق من الاضطرابات التى كانت تعترى المتهم بالكيفية التى حصلت له فى قاعة الجمعية العمومية وعند قراءته لجريدة الأخبار وجريدة مصر الفتاة قبل الحادثة بيومين أو ثلاثة وفى أثناء نومه ، وأن طبعه أنه إذا عزم على شئ نفذه فى الحال .

اذا لاحظنا كل ذلك ؛ علمنا مبلغ قابليته للتأثر والانفعال ، وتحققنا كيف تشتد به الحالة العصبية والى أى حد تستحكم فيه عوامل الغضب خصوصًا ما كان له مساس بالوطن .

إن شابًا هذا حاله وهذه أمزجته وتلك ميوله وعقائده ، لا يمكن أن تصدر أفعاله عن صدق الروية وسلامة التفكير، سيما فى مثل تلك الظروف التى ارتكب فيها فعلته ، فما بالنا بسبق الاصرار، وهو يستدل عليه من سكون الأحوال واطمئنان النفس وإعمال الفكر بقدر ما تستدعيه الروية .

كان بداية حصول التهيج يوم الجمعة 10 فبراير فى قاعة الجمعية العمومية ، حيث ذهب اليها المتهم فرأى بطرس باشا ـــ على ما يقول ــ يسوق أعضاءها سوقًا . يسأله هذا عما أشكل فى خطبة الجناب العالى ، فيأمره بالسكوت ، ويسأله الآخر فيقابله بالتعنيف والتقريع .

رأى الوردانى منه ذلك فعده إهانة للجمعية و للأمة بأسرها فى شخص جمعيتها ، وسلطة الأمة فوق كل شئ . رأى ذلك من رئيس الحكومة ، والحكومات كما يعلم هو والناس ــ ليست إلا أمناء على مصالح الشعب .. لا تستمد سلطتها إلا من الأمة ، ومعاملة المرحوم بطرس باشا للجمعية بهذه الشدة وذلك الاغضاء من جانب أعضائها ، قد هيجت ذكرى دنشواى واتفاقية السودان واعادة قانون المطبوعات ، فأثرت على فكره وأعصابه وأحدثت اضطرابًا فى أعضائه إلى الحد الذى دلت عليه شهادة الشهود .

شهد على أفندى الشمسى فقال أعرف أن أخلاقه حميدة ، وانما كنت أشاهد منه فى المناقشات أنه عصبى المزاج ، فهو فى حد ذاته كثير الحياء ، ولكن عند المناقشة اذا تكلم أحد بعبارة ضد فكره كان ينفعل انفعالًا شديدًا .

وأضاف على الشمسى أنه شاهده يوم جلسة الجمعية العمومية فى حالة اضطراب ظاهرة ، ويداه ترتعشان .

ويقول الوردانى نفسه أنا كنت أعتقد دائمًا أن بطرس باشا خائن لوطنه وأتمنى أن لو تسقط وزارته ، ثم لما حضرت فى الجمعية العمومية التى عقدت بعد تشريف الجناب العالى ، وسئل فيها بطرس باشا عن تفسير ما جاء فى النطق السامى ورفض ذلك فتغيظت جدًا ، ورأيت أن فى ذلك منتهى الاستبداد وعدم الاحترام لنواب الأمة ، وأخذ منى كل مأخذ ، واشتدت بى الحالة العصبية حتى كنت أحلم ليلاً أنى أهجم عليه لأقتله ، ولما قرأت صباح ذات يوم فى جريدة الاخبار أن بطرس باشا سحب محضر الجلسة ، لأنه يريد تغيير أقوال حشمت باشا ، ازداد عندى التغيظ .. وكان ذلك قبل الجناية بثلاثة أيام أو أربعة ، وفى يوم الجمعة اشتدت بى الحالات العصبية وصممت على قتله ، ونية القتل وجدت عندى يوم السبت .

والسؤال الثانى ، هل بقى الوردانى على هذه الحالة ، ولازمه التأثر والاضطراب طول هذه الفتره ، أو أنه انقطع وعاوده اطمئنان النفس وسكون الحواس وهدوء الخاطر فأمعن النظر وأعمل الفكر فيه خاليًا من كل الشوائب والمؤثرات .

قد بينا فيما تقدم أن كمية الزمن لا اعتبار لها وأنها ليست هى بالمقياس لسبق الإصرار لجواز امتدادها إلى ثلاثين يومًا ، وكذلك عرفنا أن مجىء الفاعل لتنفيذ قصده الجنائى ورجوعه عنه ثم عودته اليه لا يدل إلا على مجرد إرادة الفعل دون الاصرار عليه .

فجواز استمرار التهيج والانفعال طول هذه المدة أمر لاريب فيه ، قال فوستان هيلى إن استمرار الانفعال والتهيج لا يمكن حصره فى فكر ولا تحديده بحدود معينة ، لأنه فى أغلب الأحيان يبقى ويستمر بعد حدوثه فيبقى الفاعل كآلة يحركها سلطان الغضب ، وما دام هذا حاله فان فعله لا ينفذ حكمه على حالته الأولى ، وما دام الاندفاع الوجدانى لم يسمح له بالتفكير، فلا وجود عنده لتبصر ولا روية .

زر الذهاب إلى الأعلى