بقلم الأستاذ رجائي عطية نقيب المحامين رئيس اتحاد المحامين العرب
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 21/2/2022
أحب قبل أستطرد فى بيان مرافعة الأستاذ محمود بك أبو النصر ، أن أقف عند أمرين ، أولهما حرص الأستاذ أبو النصر على أَلاَّ يذكر اسم بطرس باشا غالى فى مرافعته ، إلاَّ مسبوقًا بكلمة « المرحوم » ـ لم ير هذا الجيل الذهبى للمحاماة أن أداء واجب الدفاع ، يتعارض مع الاحترام الواجب للمجنى عليه ، وثانيهما أن اختلاف الدين لم يمنع هذا الاحترام ، على نفيض ما صرنا نراه الآن لدى المتطرفين , الذين يضنون بالرحمة على من سواهم ، وبالمعايدة عليهم فى أعيادهم ، بل ولا يبدأونهم بالسلام . ويحسبون أن هذا من الإسلام .
كان هذا الجيل الذهبى يفهم حقيقة الإسلام , وإخاء وسماحة الإسلام , لذلك فلم يكن غريبًا أن يبذل المحامون المدافعون عن المتهم ، ما يجب بذله للمجنى عليه بطرس باشا غالى من الاحترام .
والواقع أن المرحوم بطرس لم يكن على ما ظنه إبراهيم الوردانى .
فى مذكرات إسماعيل صدقى باشا ، ـ طفق يقول :
« الحق أن بطرس باشا لم يكن خائنًا لبلاده كما يصوره حادث مقتله , أو على الأقل فى اعتقاد قاتله , فقد كان رحمه الله مخلصًا لوطنه , محبًّا لحرية بلاده , وكانت له مواقف فى الوزارة تدل على مبلغ إيمانه بحقوق أمته , ورغبته فى خلاصها من الأجنبى , ولو لم يكن بهذه الصفة ــ لما حاز ثقة الخديوى عباس , الذى كان يشجع الحركة الوطنية والعاملين لها , ويتمنى أن يكون على رأس أمة حرة مستقلة لا يسُومها الاحتلال الهوان ، ولا يهدده المحتلون بالخلع عن أريكة البلاد بين حين وآخر » .
ومن نافلة القول أن أشير ، إلى أن الأستاذ محمود بك أبو النصر ، تلقى الإسلام الصحيح منذ نعومة أظفاره ، ثم تواصل معه ومع مبادئه وقيمه وأحكامه فى دراسته الثانوية ثم العليا فى الأزهر الشريف قبل أن يدرس الحقوق فى جامعة ليون بفرنسا ، وزاد هذه الدراسة عمقًا ، بدراسته وتخرجه فى كلية دار العلوم التى تخرج فيها عام 1889 ، وعمله مدرسًا فيها لسنوات ، قبل أن يشد الرحال إلى فرنسا ليلتحق بجامعة ليون ويدرس فيها القانون والفلسفة ، ليعود إلى مصر فينخرط فى المحاماة ، وفى الحركة الوطنية إلى جوار محمد بك فريد ، قبل أن يلتحق بالوفد ، ثم بعد ذلك بالأحرار الدستوريين عندما ترك الوفد مع الذين اختلفوا مع سعد باشا ، فكان منهم ماهر والنفراشى اللذين أقاما الهيئة السعديه ، وكان منهم ـ كالأستاذ « أبو النصر » ـ من آثر الالتحاق بحزب الأحرار الدستوريين ، وجدير بالذكر أن علم هذا النقيب الضليع ، كان سببًا فى اختياره فى لجنة الثلاثين التى نهضت على وضع الدستور المصرى الذى عرف بدستور 1923 .
وهناك مسألة أخرى ، أن فكرة إبراهيم الوردانى عن مد امتياز شركة قناة السويس ، والتى أدان بها المرحوم بطرس باشا غالى ، كانت تخالف الواقع الذى لم يكن معلومًا لدى الوردانى أو سواه فى ذلك التاريخ . فوراء الظاهر الذى طالعه الناس ، كان هناك اتفاق سرى كشف عنه أحمد شفيق باشا رئيس الديوان الخديوى ، فى مذكراته فى نصف قرن . كشف أن وراء هذا الظاهر ، كان هناك اتفاق وطنى لتفويت الفرصة على شركة قناة السويس التى سعت بدعم فرنسا وإنجلترا ، إلى مد امتيازها أربعين عامًا حتى عام 1969 لقاء أربعة ملايين جنيه . من المعلوم أن شهيد الوطنية محمد بك فريد شن حملة شعواء على مد الامتياز ، وهذا الدور المحمود لا ينفى أنه نظرًا لالتزامات الحكومة ، كان لها فى الباطن اتفاق يخالف الظاهر , وكان أبطال هذا الاتفاق ، محمد سعيد باشا ، وبطرس باشا غالى ، وسـعد زغلول باشا . اتفق الثلاثة على رفع الحرج عن الحكومة المصرية إزاء ضغوط الدولتين العظميين ، عرض مشروع المد على الجمعية العمومية ، بحجة أن هذا أدعى للقبول الشعبى لمد الامتياز ، بينما كان الموثوق به ، أن الجمعية العمومية سوف ترفض المشروع ، واقتضى ترتيب المشهد ، أن يكون سعد زغلول هو من يمثل الحكومة لدى البرلمان كيما لا تظن الدولتان العظميان أن الحكومة قصرت فى عرض المشروع ، فسعد زغلول صاحب مكانة وحجة ، ومحل ثقة .. قبل سعد زغلول مضحيًا ، أن يظهر أمام الشعب بصورة تنال من مكانته وشعبيتـه . لم يبال بذلك ما دامت الغاية مصلحة مصر . وحدث بالفعل أن رفضت الجمعية العمومية بالإجماع مشروع مد الامتياز ، لم يشذ عن ذلك سوى العضو مرقص باشا سميكة .
لم يكن الوردانى ولا غيره ، يعلم بهذه الحقيقة الخافية ، فآخذ المرحوم بطرس غالى ، على الصورة التى كانت شائعه آنذاك ، حيث لم يُحسر النقاب عن الحقيقة إلاّ فى مذكرات أحمد شفيق باشا فى نصف قرن ، والتى صدرت بعد واقعة الاغتيال بسنوات .
هذه الحقيقة ، ترينا كيف يمكن أن يضل من يتصدون لإطلاق الأحكام على غير علم ، دون أن يكون متاحًا لهم معرفة الحقائق التى وراء الستار ، وذلك شبيه بمن يحلون أنفسهم محل القضاء القضاة ، ويصادرون عليه ـ عن جهل وقلة علم ـ بإصدار الأحكام , آخذين على القضاء والقضاة ، أنهم لم يحكموا بما رأى هؤلاء المتعجلون أنه الحكم العادل الواجب ، بينما هو أبعد ما يكون عن العدل والحق والواجب والصواب .
كان واجبًا أن أضع هذه الحقيقة أمام القارئ ، حتى لا يخلد فى ظنه أن المرحوم بطرس باشا غالى كان خائنًا لوطنه ، بزعم أن من دلائل خيانته سعيه لمد امتياز شركة قناة السويس ، بينما كانت الحقيقة ـ التى يجهلها الوردانى وغيره ، أن الأمر كان على نقيض ما جرت به ظنونه .