النقيب الضليع محمود بك أبو النصر أستاذ القانون والمحاماة ( 7 )
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 14/2/2022
ـــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ: رجائى عطية
استأنف الأستاذ محمود بك أبو النصر ، فى مرافعته ، يبدى الأسباب التى دفعت المتهم لارتكاب الجريمة فقد تصدى أن المرحوم بطرس باشا لاتفاقية السودان فأمضاها وحده , واللورد كرومر يفهم أنه هو الذى حمل الجناب العالى على الموافقة عليها , وسمو الأمير يفهم أن بطرس باشا بتعرضه لا مضائها قد أسدى لمولاه مبرة كبرى بتحمل المسئولية عنه».
« قبل رئاسة محكمة دنشواى ليكون مرة أخرى واسطة العقد بين السلطتين المتنازعتين فى ذلك الأمر , وما رعى نظر الأمة فيه ولا كيف يكون حكم عليه .
« عين رئيسًا للنظار فكانت باكورة أعمال وزارته مصادرة الأمة فى حرية صحافتها » .
« التهب سير الحوادث إلى مسألة القنال فكانت مشكلة المشاكل ومبعث الماضى الدفين وذكرى الناسين والمتناسين » .
« أعادت هذه المسألة على ذهن الوردانى مجموع تلك الأحوال التى كان للفقيد فيها المظهر الأول أو الباع الطولى , وكل ذلك مما يراه الوردانى مصائب صبت على البلاد لا يرجى معها ومع أمثالها أن تصل إلى حيث يريد لها الوصول .
« تزاحم ذلك فى فكره واتفق دفعة واحدة فيه حينما رأى الفقيد يغلظ القول لنواب الأمة , كأنه يريد بتلك الشدة متى استعملها أن يوافقوا أو يتلاشوا فلم يبق عند المتهم بعد هذا موضع لروية ولا موضع لرشاد فضرب , وعَقَّب الأطباء بالقاضية … بخطئهم الطبى ! .
« اندفع بحب وطنه معتقدًا أنه انما كان يؤدى واجبًا عليه لهذا الوطن الأسيف , ويضحى بنفسه فى سبيل الدفاع عنه , والذود عن حياضه .
« هذا أول يوم ينظر فيه القضاء المصرى حادثة مبناها العقيدة وتضحية النفس فى سبيلها .
« لازم فى هذا المقام أن أتى بكلمة عن العقيدة ومبلغ تأثيرها فى النفوس » .
« العقيدة رسوخ فكر الانسان على رأى فطرى أو كسبى يرى أنه هو الحق وأن ما سواه الباطل , ولقد كان للعقائد فى معترك الحياة أجل الأثار وأعظم النتائج التى أسست بمقتضاها المجتمعات الانسانية , وشيدت عليها نظاماتها المختلفة فى جميع الأمصار, فهى التى كانت على مرور الأيام مدار التقلبات الاجتماعية ومثار لقلاقل ومقر الثورات , كما أنها كانت مقر الأديان , ومبعث العلوم ومجال الاصلاحات العمرانية , وهى التى كانت باختلافها من الناس مدعاة لما لا يحصى من المنازعات وما لا تحصر من المتاعب والالآم , غير أنها مع ذلك أنتجت فى كل زمان ومكان أكثر الآيات وأكبر المعجزات ــ لا يدل على قوتها شئ أكثر وأصدق من قول عيسى عليه السلام فى آية مسطورة فى الإنجيل « ولو كان عند أحدكم مثقال حبة الخردل من الإيمان ؛ وقال لهذا الجبل انتقل ــ لانتقل من مكانه » .
« على أن الذين جاءت عقائدهم السياسية بعظائم الأمور فى كل زمان , هم المتغالون وما منهم إلا من رمى بطيش الرأى أو اتهم بالجنون , ويشهد الله أنهم مارموا سدى ولا اتهموا عبثًا .
« لأن التصدى للأمور الكبرى التى ليست من مألوفات الناس ــ لا تصدر عن عقول فى مستوى عقولهم , ولهذا هم ينكرونها وينكرون آثارها إلى ان تثبت الأيام انها جديرة بالبقاء أو خليقة بالعناء .
« إن العقائد تصطنع لعلاتها نفوسها بجانب نفوسهم تبدأ بالتسلط عليها وتنتهى بالحلول محلها .
« كل هذا غير بارح عن بالكم , وإنما أتيت به ليستقر فى نظركم أن هذا الرجل الماثل أمامكم فى موقف الإتهام , إنما هو سليل رأى وعقيدة , وللعقيدة ما ليس لغيرها من الأحكام.
أما أصل هذه العقيدة وتكونها , فهو ما استأنفه الأستاذ محمود أبو النصر , ليدلى بدلوه بفكر عميق وحجة بالغة , لأستاذ عالم عارف , وما لك لنواصية , تطاوعه لغته الرفيعة , وحجته الغالبة . طفق يقول :
« أتى على الأمم المغلوبة فى أدوار حياتها ساعات تخفق لها القلوب وترتاع لها الخواطر وتحار فى تصريفها الأفكار، فترى القوم فيها صرعى تشخص أبصارهم الى ما تلده تلك الساعات من الحوادث الأليمة والخطوب الجسيمة ، فإذا ما أحدقت بهم المخاوف وانذرت الكوارث بالوقوع , نهضوا أفرادًا وجماعات إلى تلافى أمرها بكل ما لديهم من الوسائل ، وما أوتوه من قوة ومن حول لا يلوى عنانهم ضعف ولا يثنى عزيمتهم خوف .. نهضوا مسوقين إلى ذلك بعوامل الطبيعة والفطرة , تلك العوامل التى تدفع الإنسان بل وكل كائن حى ، إلى حفظ كيانه وطلب استقلاله والأخذ بنصيبه من هذا الوجود سنة الله فى خلقه » .
« وأكثر ما تكون تلك الحوادث وقوعًا فى أدوار الانتقال طبقًا لنواميس الارتقاء وتبعًا لقوة الشعور والتضامن الوطنى » .
« ومصر الآن فى ابان دورها الأخير من هذا التدرج فلا عجب اذا رأينا فيها من الحوادث ما لم نعهد له من قبل مثيلًا » .
« مصرنا اليوم غيرها بالأمس توجد فى البلاد حركة فكرية انبعثت روحها الشريفة فى نفوس المصريين ، فاستيقظوا وأصبحوا أرقى شعورًا وأقوى احساسًا وأعرف بحقوقهم الاجتماعية وواجباتهم الوطنية مما كانوا » .
« كانت تمر علينا الحادثات وتنزل المصائب فننظر اليها نظر المغشى عليه ، واليوم ترانا غير ما كنا .. تنذرنا الأيام بأمثال تلك الكوارث فتضطرب منا الأعصاب وتشتعل الحواس ويعلو صوت الحق ويتساءل الناس ماذا يراد بنا » .
« شهد زميلكم خالد الأثر المرحوم قاسم بك أمين مظاهر هذا الانتقال فى الأمة فقال كلمته المأثورة « رأيت قلب مصر يخفق مرتين ، الأولى يوم تنفيذ حكم دنشواى ، والثانية يوم الاحتفال بجنازة صاحب اللواء حيث تجلى هذا الشعور ساطعًا فى قوة جماله وجلاله ، هذا الاحساس الجديد الذى خرج من دم الأمة ، والأمل الذى يبتسم فى وجوهنا البائسة هو المستقبل » .
« تلك كلمة زميلكم المرحوم عن درجة أحساس الأمة وشعورها بالواجب ومبلغ التضامن القومى فيها » .