النقيب الضليع محمود بك أبو النصر أستاذ القانون والمحاماة (3) 

 نشر بجريدة الأهرام الاثنين 17/1/2022

ــــــــ

بقلم: الأستاذ رجائى عطية نقيب المحامين

إذن فلم يكن اغتيال بطرس باشا غالى لأسباب دينية أو لانحيازات طائفية ، ففور القبض على القاتل إبراهيم ناصف الوردانى ـ وهـو مـن شباب الحزب الوطنى القديم ــ صرح بأن دوافعه للاغتيال ما اعتبره « خيانات » فى تصرفات رئيس الوزراء ، وذكر فيما ذكره من مآخذه التى أوجدته عليه : توقيعه اتفاقية السودان ( 1899 ) ، ورئاسته للمحكمة المخصوصة فى حادثة دنشواى ، وإعادته قانون المطبوعات ، وسعيه الحثيث ضد رغبة جميع القوى الوطنية لتمرير وإنفاذ مشروع مد امتياز شركة قناة السويس لقـاء ثمن زهيد لا يتفق مـع المصالـح الوطنية التى يهدرها ويضيعها هذا المد !

ولكن سلطات الاحتلال الإنجليزى ، لم تشأ أن تدع الفرصة تمر دون استغلال خبيث لضرب النسيج الوطنى المصرى ، وكانت تلعب من قبل هذا الاغتيال ، على هذا الوتر لإذكاء النعرات الطائفية ، فلما وقع الحادث ؛ أخذ المعتمد البريطانى يلعب على هذا الوتر لإثارة الشعور القبطى على اغتيال بطرس باشا غالى، ويدفع الأمور إلى عقد مؤتمر قبطى احتجاجى فى أسيوط ، بالرغم من أن بطرس غالى  نفسه كان ضد هذا المؤتمر الذى طرحت فكرته وعارضها قبل اغتياله .. أخذت الأمور تدفع دفعاً رغم ظهور الدافع أو الغرض السياسى لقلب القضية إلى تصفية طائفية ، وإلهاب مشاعر الإخوة الأقباط ..

وفى مقابل المؤتمر القبطى الذى عقد بأسيوط ( مارس 1911 ) يسبقه ويصاحبه كتابات صحفية تزكيها سلطات الاحتلال وتصريحات مثيرة مغلوطة للرئيس الأمريكى السابق وقتها « تيودور روزفلت » ، عقد مؤتمر مقابل فى مصر الجديدة ( 29 أبريل / 4 مايو 1911 ) ، مما جعل الأمر ينذر بعواقب وخيمة صاحبت مأساة الاغتيال وتدابير المحاكمة التى كانت تستلزم بدورها قدراً عالياً من الحكمة لا يخل بحقوق الدفاع كواجب جدير بالرعاية ، ولا يغفل خطأ « الاغتيال » من ناحية ، أو يغضى عن الحساسيات التى يثيرها المغرضون عمداً لشق الأمة المصرية !!

وسط هذه الغيوم التى انطلقت سحاباتها فى كل جانب ، ظهر المحامون فى مقدمة الصفوف لوقاية الأمة المصرية من أخطار هذه الغمة .. دون أن تغفل المحاماة واجب الدفاع عن المتهم كحق مقدس طبقا للأصول الدستورية وتقاليد المحاماة ، وأمام محكمة جنايات مصر ـ وكانت برئاسة الإنجليزى « دلبر وجلى » وعضوية المستشارين أمين بك على وعبد الحميد بك رضا ، وعلـى كرسى النيابة عبد الخالق باشا ثروت ، بينما تولى الدفاع عن المتهم ابراهيم ناصف الوردانى : الأساتذة أحمد بك لطفى ، وابراهيم بك الهلباوى ، ومحمود بك أبو النصر ، وكان من ضمن هيئة الدفاع أمام قاضى الإحالة ـ إضافة إلى هؤلاء ـ الأساتذة عبد العزيز فهمى بك / باشا ، ومحمد على علوبة بك / باشا ، ومحمود بسيونى ( بك ) ، وأحمـد عبد اللطيف ( بك ) ، ومصطفى عـزت . ولـم يكن دور الدفاع هينا أو سهلا أمام قاضى الإحالة ، فقد صاحب اتهام الوردانى اتهام ثمانية آخرين كان يمكن لو مضى اتهامهم بغير تدقيق أن يأخذ الحادث أبعاداً أخرى ، بيد أن ما أبداه المحامون حصـر القضية أمام قاضى الإحالـة فى نطاقها ، فأصدر قراره بإحالة الوردانى فقط إلى محكمة الجنايات بتهمة القتل ، وبأن لا وجه لإقامة الدعوى قبل الثمانية الآخرين لانتفاء اشتراكهم فى الواقعة .

ومـن يطالع مرافعات المحامين أمام محكمة الجنايات فى الكتاب الضافى : « المرافعات فى أشهر القضايا » ، للأستاذ محمود عاصم المحامى الذى حفظ لنا هذا التراث ، يلمس الأبعاد العميقة المدركة بموضوعية لحـق الدفاع بغير إسفاف أو مظهريات ، الواعية لحق الأمة فى أن يصان لها ـ مع حق المتهم ـ حقها فى الأمان وفى ضوابط ترعى الموازين جميعها بفهم ووعى ورؤية ناضجة .. بعد مرافعة النائب العمومى عبد الخالق ثروت باشا ( رئيس الوزراء ونقيب المحامين فيما بعد ) ـ ترافـع على التوالى الأساتذة محمود بك أبو النصر ، أحمد بك لطفى ، ابراهيم بك الهلباوى ( النقباء جميعًا فيما بعد فلم يكن يتبوأ مقعد النقيب ، سوى الأعلام فى المحاماة ) .. كانت مرافعة النائب العمومى قطعة أدبية وقانونية رائعة ، تكهن فيها بما يرمى إليه الدفاع ، فسعى طاقته إلى سد منافذه ، إدراكًا لكون الدفاع عن المتهم هو آخر من يتكلم ، ومن ثمّ فإن واجب الفطنة أن يسبق إلى قراءة مرامه ، وأن يدلى بدلوه فيه .. وجدير بالذكر أن مرافعته مع روعتها التزمت الموضوعية والأدب الرفيع فى الموضوع والقانون ، فلما جاء دور المحامين ، إذ بهـم يأخذون الألباب مع دقـة الموقـف وصعوبته ، فـلا يخـرج أحدهم عن الموضوعية ، ولا يسفسط فى الوقائع أو القانون ، ويؤدى كل منهم دوره فى إطار التقسيم الثلاثى الذى التزمـوه فيما بينهم .. يتحدث الأستاذ محمود بك أبو النصر فى سبق الإصرار ونقطة السبب ، فيسوق ما لم يسبقه ولعله لن يلحق به أحد !

ومن المهم قبل أن نمضى فى بيان مرافعة الدفاع ، أن نؤكد أن المعالجة القانونية ، ومناقشة أو هدم الأدلة ، هى مسائل فنية من موجبات الدفاع ، ولا تعنى أن المترافع يرضى بالاغتيال أو يشجعه ، ولا تعنى أنه يكره المجنى عليه رئيس النظار ، أو يقر ما حدث ، نفهم ذلك حين نفرق بين الواقعة من ناحية ، وبين المتهم من ناحية أخرى ، فهذه الدائرة هى التى يتحرك فيها المحامى النابه أو العارف المالك لنواصيه .

abdo

صحفي بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين؛ عمل في العديد من إصدارات الصحف والمواقع المصرية، عمل بالملف السياسي لأكثر من عامين، عمل كمندوب صحفي لدى وزارتي النقل والصحة، عمل بمدينة الإنتاج الإعلامي كمعد للبرامج التلفزيونية.
زر الذهاب إلى الأعلى