«النقض» توضح الأصل والاستثناء في حصانة الدول الأجنبية وعدم خضوعها أمام المحاكم الوطنية

أكدت محكمة النقض في حكمها بالطعن رقم 2703 لسنة 87 قضائية، إنَّ قواعدَ القانونِ الدوليِّ العامِ المستمدةَ من العُرفِ الدوليِّ قد استقرتْ على عدمِ خضوعِ الدولِ الأجنبيِّةِ كأشخاصٍ قانونيِّةٍ لولايةِ القضاءِ الوطنيِّ في المنازعاتِ المتعلقةِ بنشاطها كشخصٍ دوليٍّ ذي سيادةٍ وفيما يصدرُ عنها من تصرفاتٍ بوصفها صاحبةَ سلطانٍ وسيادةٍ، فلا تخضعُ للقضاءِ الوطنيِّ إلَّا بقبولها التنازلَ عن هذه الحصانةِ القضائيةِ صراحةً أو ضمنًا باتخاذِ موقفٍ لا تدعُ ظروفُ الحالِ شكًّا في دلالته على التنازلِ عن هذه الحصانةِ وقبولِ الخضوعِ الاختياريِّ للقضاءِ المصريِّ.

الحكم

بعد الاطلاع على الأوراق وسماع التقرير الذي تلاه السيد القاضي المقرر / هاني عميرة ” نائب رئيس المحكمة ” ، والمرافعة ، وبعد المداولة .
حيثُ إنَّ الطعنَ استوفى أوضاعه الشكلية .
وحيثُ إنَّ الوقائعَ – على ما يبينُ من الحكمِ المطعونِ فيه وسائرِ الأوراقِ – تتحصلُ في أنَّ الطاعنينَ الأربعةَ الأُوَّل أقاموا الدعوى ….. لسنة ٢٠١٠ مدني الجيزة الابتدائية على المطعون ضده بصفته ، بطلبِ الحكمِ بإلزامِه بأنْ يؤديَ لهم تعويضًا مقداره عشرةُ ملايين يورو عما لحقهم من أضرار .

وقالوا بيانًا لذلك : إنَّ مورثَهم كان ضابطًا بالقواتِ المسلحةِ المصريةِ برتبةِ ملازمِ أول إبانَ العدوانِ الثلاثيِّ على مصرَ عام ١٩٥٦ ، وأسَرَتْه القواتُ الفرنسيةُ ، ثم اغتالتْه ، ومن ثم فقد أقاموا الدعوى . تدخلتِ الطاعنةُ الخامسةُ انضماميًّا للطاعنينَ . قضت المحكمة بعدم قبول الدعوى . استأنف الطاعنون هذا الحكم بالاستئناف رقم …… لسنة ١٢٧ ق القاهرة ” مأمورية الجيزة ” ، وقضتْ بإلغاءِ الحكمِ المُستأنفِ وإعادة الأوراق إلي محكمة أول درجة ، والتي قضت برفضها . استأنف الطاعنون هذا الحكم بالاستئناف رقم …… لسنة ١٢٩ ق القاهرة ” مأمورية الجيزة ” ، وبتاريخ ١٨ / ١٢ / ٢٠١٢ قضت المحكمةُ بتأييدِ الحكمِ المستأنفِ .

طعن الطاعنون في هذا الحكمِ بطريقِ النقضِ بالطعن رقم ….. لسنة ٨٣ ق ، وبتاريخ ٩ / ٤ / ٢٠١٥ نقضتْ المحكمةُ الحكمَ المطعونَ فيه وأعادت الأوراقَ إلى محكمةِ الاستئنافِ ، التي أحالتها للتحقيق ، وبعد أن استمعت لشاهديِّ الطاعنينَ ، قضت بتاريخ ٢٦ / ١٢ / ٢٠١٦ بالتأييد . طعنَ الطاعنون في هذا الحكمِ بطريقِ النقضِ ، وقدمت النيابةُ مذكرةً أبدتْ فيها الرأي برفض الطعن ، وإذ عُرض الطعنُ على هذه المحكمة ، في غرفة مشورة ، حددت جلسةً لنظره ، وفيها التزمت النيابةُ رأيَها .

وحيثُ إنَّ نصوصَ الموادِ من ٢٨ حتى ٣٥ من قانون المرافعات – التي ترسمُ حدودَ الاختصاصِ القضائيِّ الدوليِّ للمحاكم ِالمصريةِ – تدلُ على أنَّ أحكامَ هذه الموادِ تقومُ علي المبدأ العامِ السائدِ في فقهِ القانونِ الدوليِّ الخاصِ ، وهو أنَّ الأصلَ في ولايةِ القضاءِ في الدولةِ هو الإقليميةُ ، ومنْ ثَمَّ تتحددُ هذه الولايةُ وفقًا للضوابطِ والقواعدِ المنصوصِ عليها في هذه الموادِ باعتبارها المرجعَ في تحديدِ اختصاصِ المحاكمِ المصريةِ ، والمخالفةُ في هذا المقامِ لا تتصلُ بمخالفةِ قواعدِ الاختصاصِ النوعيِّ أو القيميِّ أو المحليِّ ، ولا بالاختصاصِ الولائيِّ أو الوظيفيِّ ، الذي يقصدُ به توزيعُ الاختصاصِ بين الجهاتِ القضائيةِ المختلفةِ التي لها ولايةُ الفصلِ في المنازعاتِ داخلَ الدولةِ ، وإنَّما تتعلقُ المخالفةُ في هذا الخصوصِ بتجاوزِ المحكمةِ حدودَ سلطتِها بالفصلِ في نزاعٍ يخرجُ عن ولايتِها ولا يدخلُ في اختصاصِ أو ولايةِ أيةِ جهةٍ من جهات القضاءِ الوطنيِّ ، لخروجِه عن ولايةِ السلطةِ القضائيةِ في الدولةِ ، ولذلك حرصَ المشرعُ على جَعْلِ قواعدِ الاختصاصِ القضائيِّ الدوليِّ للمحاكمِ المصريةِ الواردةِ في الموادِ المشارِ إليها تتعلقُ بالنظامِ العامِ ، وذلك بالنصِ في المادةِ ٣٥ من قانونِ المرافعاتِ علي أنَّه ” إذا لم يحضرِ المدعى عليه ولم تكنْ محاكمُ الجمهوريةِ مختصةً بنظرِ الدعوى طبقًا للموادِ السابقةِ تحكم المحكمةُ بعدمِ اختصاصِها من تلقاءِ نفسِها ” ، ممَّا مؤداه ، أنَّ انعقادَ الاختصاصِ للمحاكمِ المصريةِ بنظر الدعوى يُعتبرُ مسألةً أوليةً يجبُ علي المحكمة التصدي لبحثها من تلقاءِ نفسِها ، وتُعَدُّ هذه المسألةُ قائمةً ومطروحةً دائمًا في الخصومة لتعلقها بالنظام العام ، ومن ثم يجوزُ لمحكمةِ النقضِ التصدي لها من تلقاءِ نفسِها ، ذلك أنَّ الحكمَ الصادرَ في خصومةٍ تخرجُ عن ولايةِ المحاكمِ المصريةِ لا يكتسبُ أيَّةَ حصانةٍ ولا تكونُ له حرمةٌ ولا حجيةٌ في نظرِ القانونِ .

وكانتْ قواعدُ القانونِ الدوليِّ العامِ المستمدةُ من العُرفِ الدوليِّ قد استقرتْ على عدمِ خضوعِ الدولِ الأجنبيِّةِ كأشخاصٍ قانونيِّةٍ لولايةِ القضاءِ الوطنيِّ في المنازعاتِ المتعلقةِ بنشاطها كشخصٍ دوليٍّ ذي سيادةٍ وفيما يصدرُ عنها من تصرفاتٍ بوصفها صاحبةَ سلطانٍ وسيادةٍ ، فلا تخضعُ للقضاءِ الوطنيِّ إلَّا بقبولها التنازلَ عن هذه الحصانةِ القضائيةِ صراحةً أو ضمنًا باتخاذِ موقفٍ لا تدعُ ظروفُ الحالِ شكًّا في دلالته على التنازلِ عن هذه الحصانةِ وقبولِ الخضوعِ الاختياريِّ للقضاءِ المصريِّ ، تلك الحصانةُ – وعلي ما جري به قضاء هذه المحكمة – التي لا تخضعُ بموجبها الدولةُ لولايةِ قضاءِ دولةٍ أخرى – تقومُ أساسًا علي مبدأِ استقلالِ الدولِ وسيادتِها في المجتمعِ الدوليِّ ، وهو من المبادئِ المسلمةِ في القانونِ الدوليِّ ، لأنَّ حقَ الدولةِ في القضاءِ في المنازعاتِ الناشئةِ عن التصرفاتِ التي تباشرُها بصفتها صاحبةَ سلطانٍ لصيقٌ بسيادتِها ، وخضوعُها لقضاءٍ غير القضاءِ الوطنيِّ يعني خضوعَ الدولةِ بأسرها لذلك القضاء ، بما ينطوي عليه ذلك من مساسٍ بسلطةِ الدولةِ وسيادتها واستقلالِها .

ولا يغير من ذلك ما يُثارُ في فقه القانونِ الدوليِّ العامِ حولَ تراجعِ وانحسارِ مبدأ السيادةِ الوطنيةِ وما ترتَّبَ على ذلك من تغييرٍ في مفهومِ ونطاقِ فكرةِ السيادة الوطنية نتيجةَ التطوراتِ التي شهدها النظامُ الدوليُّ خلالَ العقودِ القليلةِ الماضيةِ ، وخاصةً في قواعدِ القانونِ الدوليِّ الجنائيِّ ، والاستدلالُ على ذلك بإنشاءِ المحكمةِ الجنائيةِ الدوليةِ عام ٢٠٠٢ ، وسنِّ بعضِ الدولِ قوانينَ داخليةً تخولُ لقَضائِها الوطنيِّ محاكمةَ الأفرادِ المتهمينَ بارتكابِ جرائمَ دوليةٍ خطيرةٍ مثل جرائمِ الإبادةِ الجماعيةِ والتطهيرِ العرقيِّ وجرائمِ الحربِ والجرائمِ ضدَ الإنسانية ، حتى وإنْ وقعتْ هذه الجرائمُ خارجَ إقليمِها وكان المتهمُ والضحايا من غيرِ مواطنيها ، وهو ما أُطْلِقَ عليه في الفقهِ الدوليِّ بالولاية القضائية العالمية ، وذلك استجابةً للاتجاهِ المتنامي في المجتمعِ الدوليِّ نحوَ احترامِ حُقوقِ الإنسانِ وحرياتِه الأساسيةِ ووجوبِ وضعِ ضماناتٍ دوليةٍ تكفلُ احترامَ هذه الحقوقِ وعدمَ انتهاكِها من جانب الحكوماتِ الوطنيةِ والتنصلِ من تحملِ مسئوليتِها معتصمةً بمبدأِ السيادة الوطنيةِ ، كما استدلوا بانحسارِ فكرةِ السيادةِ الوطنيةِ على ما حققتْه المنظماتُ الدوليةُ عن طريقِ الاتفاقياتِ الدوليةِ في سعيها إلي تقنينِ المسئوليةِ الدوليةِ ، بحيث تسمحُ للدولةِ كشخصٍ من أشخاصِ القانونِ الدوليِّ إذا لحقها ضررٌ تحريكَ دعوى المسئوليةِ المدنيةِ علي الشخصِ الدوليِّ المتسببِ في هذا الضررِ ، إلَّا أنَّ كلَ ما سبقَ بيانُه لا يكشفُ عن قيامِ عُرفٍ دوليٍّ يسمحُ للشخصِ الطبيعيِّ أنْ يُقيمَ دعوى المسئوليةِ المدنيةِ ضد دولةٍ أجنبيِّةٍ أمامَ محاكمِه الوطنيِّةِ بالمطالبةِ بالتعويضِ عما حاقَ به من أضرارٍ ناشئةٍ عن التصرفاتِ التي باشرتْها هذه الدولةُ بوصفِها صاحبةَ سلطانٍ وسيادةٍ ، ومن أظهرِ هذه التصرفاتِ ما انطوى على قرارِ الحربِ ولو كانت حربًا عُدوانيةً غيرَ مشروعةٍ ، إذ مازال المبدأُ الذي يمنعُ خضوعَ الدولةِ الأجنبيِّةِ كشخصٍ قانونيٍّ دوليٍّ لولايةِ القضاءِ الوطنيِّ لدولةٍ أخرى مستقرًا ويسودُ العلاقاتِ الدوليةَ ، بما يتعينُ معه الالتزامُ به والقضاءُ بمقتضاه .

لمَّا كان ذلك ، وكان الطاعنون قد أقاموا دعواهُمْ علي سفيرِ فرنسا بصفته المُمثِّلَ القانونيَّ لها ، بطلبِ التعويضِ عما لَحِقَهُمْ من أضرارٍ بسببِ قتْلِ القواتِ الفرنسيِّةِ مورثَهُمْ الضابطَ بالجيشِ المصريِّ بعد أسْرِه من هذه القواتِ خلالَ الحربِ العُدوانيِّةِ التي شاركت فيها عام ١٩٥٦ ، وبرغم أنَّ المستنداتِ المقدمةَ من الطاعنينَ وخاصةً كتابَ مفوضِ الهيئةِ الدوليةِ للصليبِ الأحمرِ المؤرخ ٢٩ / ٤ / ١٩٥٧ ، وكذلك الصادرةَ من وزارةِ الدفاعِ المصريةِ والشهادةَ التي تفيدُ مَنْحَ المورثِ نجمةَ الشرفِ فضلًا عمَّا ساقوه من قرائنَ يَقْطَعُ جميعُها باستشهاده علي يد القوات الفرنسية بعد أسره ، وكانت اتفاقياتُ جنيفٍ الأربع والبروتوكولاتُ الملحقةُ بها قدْ أوردتْ نصوصًا تفصيليةً عنْ كيفيةِ معاملةِ أسرى الحرب ، بما يكفلُ لهم معاملةً إنسانيةً وتُحَرِّمُ أيَّ عملٍ يؤدي إلي وفاةِ الأسيرِ أو تعريضِ حياتِه للخطر وأوجبتْ علي قواتِ الدولةِ التي قامتْ بأسرِه أنْ تَرُدَّ على جميعِ الاستفساراتِ المتعلقةِ بالمعلوماتِ عن الأسيرِ ، وفي حالةِ وفاته إخطارُ الطرف الأخر وإصدار شهادةِ وفاةٍ تتضمنُ سببَ الوفاةِ ومكانَ وقوعِها وتاريخَها ، وإذ لم تلتزم الدولةُ الفرنسيةُ بأحكامِ هذه الاتفاقياتِ الواجبةِ الاحترام من جميعِ الدولِ ، سواءً كانت طرفًا فيها أو من غير أطرافِها ، بعدَ أنْ اكتسبتْ هذه الأحكامُ الصفةَ العُرفيِّةَ وأصبحتْ من القواعدِ العُرفيِّةِ الدوليِّةِ ، التي ليس لها أطرافٌ تنحصر فيهم قوتُها الملزمةُ ، بل تنصرفُ إلي عمومِ الدولِ ، إذ اُسْتُقِرَ في الضميرِ العالميِّ على أنَّ ما حوتْه تلك الاتفاقياتُ من أحكامٍ يُعَدُّ بمثابةِ قواعدِ النظامِ العامِ الدوليِّ الملزمةِ والتي لا يسقطُ بالتقادمِ ما يترتبُ علي مخالفتِها باعتبارِها تُمثِّلُ الحدَ الأدنى من الأخلاقِ الدوليةِ التي لا غني عنها لوجود الجماعة الدولية ، وبرغم ثُبوتِ مُخالفةِ القواتِ الفرنسيِّةِ لأحكامِ اتفاقياتِ جنيفٍ والبروتوكولاتِ الملحقةِ بها – علي النحو السالف البيان – بما يستوجبُ مسئوليةَ الدولةِ الفرنسيِّةِ عما قارفتْه قواتُها المسلحةُ في حقِ مورثِ الطاعنينَ ، إلَّا أنَّ الحصانةَ القضائيةَ التي تتمتعُ بها الدولةُ الفرنسيِّةُ تعفيها من الخضوعِ لولايةِ المحاكمِ المصريةِ ، ولا يؤثرُ في ذلك انضمامُ الدولةِ الفرنسيِّةِ إلي اتفاقيةِ الأممِ المتحدةِ لحصاناتِ الدول وممتلكاتِها من الولايةِ القضائيةِ التي نُشِرَتْ وفُتِحَتْ للتوقيعِ بموجب قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ ٢ / ١٢ / ٢٠٠٤ التي نصت في المادة ١٢ منها علي أنَّه ” ما لم تتفقِ الدولتان المعنيتان علي غير ذلك ، لا يجوزُ لدولةٍ أن تحتجَ بالحصانةِ من الولايةِ القضائيةِ أمام محكمةِ دولةٍ أخرى ، تكونُ من جميعِ الوجوهِ الأخرى هي المحكمةُ المختصةُ ، في دعوى تتصلُ بالتعويضِ النقديِّ عن وفاةِ شخصٍ أو من ضررٍ لحقَه أو عن الإضرارِ بممتلكاتٍ ماديِّةِ أو عن ضياعِها ، نتيجةً لفعلٍ أو امتناعٍ عنْ فعلٍ يدعي عزوه إلي الدولةِ ، إذا كان الفعلُ أو الامتناعُ قد وقع كليَّا أو جزئيًّا في إقليمِ تلك الدولةِ الأخرى وكان الفاعلُ أو الممتنعُ موجودًا في ذلك الإقليم وقتَ حدوثِ الفعلِ أو الامتناعِ ” وهذا النص ولئنْ كانَ منْ شأنِه أنْ يُخَوِّلَ المحاكمَ المصريةَ ولايةَ الفصلِ في الدعوى المطروحةِ باعتبارها مطالبةً بتعويضٍ نقديٍ عن الأضرارِ التي حاقتْ بالمُدعيينَ الناجمةِ عن قتْلِ القواتِ الفرنسيِّةِ مورثَهُمْ أثناءَ تواجدِها على الأراضي المصريةِ خلال الحربِ العُدوانيةِ على مصرَ سنة ١٩٥٦ ، بما تتوافرُ معه الشروطُ الواردةُ في ذلك النصِ والذي يمتنعُ بموجبِه على الدولةِ الفرنسيِّةِ الاحتجاجُ بالحصانةِ القضائيةِ من الولايةِ القضائيِّةِ للمحاكمِ المصريةِ ، إلَّا أنَّه لمَّا كانتْ مصرُ لم تنضمْ إلي هذه الاتفاقيةِ ، ومن ثم لا تفيدُ من أحكامِها ، لأنَّ الاتفاقياتِ الدوليِّةَ الجماعيِّةَ – وعلي ما جري به قضاء هذه المحكمة – لا تلزم إلَّا الدولَ أطرافَها في علاقتِها المتبادلةِ ، وهي الدولُ التي صدَّقّتْ عليها علي النحو الذي يحددُه تشريعُها الداخليّ وقامتْ بإيداعِ هذا التصديقِ بالطريقةِ التي توجبُها كلُ اتفاقيةٍ ، بما مؤداه ، أنَّ الدولَ التي لم تنضمْ إلي اتفاقيةٍ جماعيةٍ معينةٍ تخضعُ في علاقاتِها المتبادلةِ وفي علاقاتِها مع الدولِ التي انضمتْ إليها للقواعدِ المقررةِ في القانونِ الدوليِّ ، دون تلك التي نصتْ عليها الاتفاقيةُ ، إذ لا يتصورُ أنْ تُنشئَ الاتفاقيةُ التزاماتٍ أو حقوقًا للدولِ غير الأطرافِ بدون موافقتِها ، احترامًا لسيادة تلك الدول ، كما أنَّه منْ غير ِالمقبولِ أنْ تستفيدَ دولةٌ من أحكامِ اتفاقيةٍ ليست طرفًا فيها .

لكلِ ما تقدم بيانُه آنفًا ، فإنَّ هذه المحكمةَ لا تملك سوى تقريرِ عدمِ اختصاصِ المحاكمِ المصريةِ بنظر الدعوى والوقوف عند هذا الحد ، باعتبارِ أنَّ قواعدَ الاختصاصِ القضائيِّ الدوليِّ هي قواعدٌ منفردةٌ تقتصرُ على تحديد ما إذا كانت المحاكمُ الوطنية ُمختصةً أم لا ولا تتجاوز هذا النطاقَ إلي تحديدِ المحكمةِ المختصةِ ، فإنَّ الحكمَ المطعونَ فيه إذ انطوى قضاؤه في موضوعِ الدعوى على قضاءٍ ضمنيٍ باختصاصِ المحاكمِ المصريةِ بنظرِ الدعوى ، فإنَّه يكونُ معيبًا بمخالفةِ القانونِ ، بما يُوجبُ نقضَه وإلغاءَ الحكمِ المستأنفِ والقضاءَ بعدمِ اختصاصِ المحاكمِ المصريةِ بنظرِ الدعوى .

وكان الحكمُ بعدمِ اختصاصِ المحاكمِ المصريةِ بنظرِ الدعوى لا يترتبُ عليه انقضاءُ الحقِ الذي رفعتْ به وإلَّا كان إنكارًا لحق المُدعيينَ في العدالة والانتصاف ، وتركُ الضررِ يستقرُ حيثما وقع دونَ أنْ تتحملَ الدولةُ المعتديةُ مسئوليةَ ما ترتبَ على عُدوانِها ، وهو ما يشكل ظلمًا بينًا للمُدعيينَ ، فإنَّ هذا الحكمَ لا يحولُ بينهم وبينَ مطالبةِ الحكومةِ المصريةِ ، بوصفِها الهيئةَ التنفيذيِّةَ والإداريِّةَ العُليا والمُمثِّلَ الوحيدَ للدولةِ والمُعَبِّرَ عن سيادتها في علاقتها بأشخاصِ القانونِ الدوليِّ ، باتخاذِ جميعِ الإجراءاتِ الضروريةِ اللازمةِ علي الصعيدِ الدوليِّ وسلوكِ كافةِ السُّبُلِ التي توفرُها قواعدُ القانونِ الدوليِّ ، بما يكفلُ الحصولَ للمدعيينَ على حقِهم في التعويضِ عنْ الأضرارِ التي حاقت بهم من جَرَّاءِ قتْلِ القواتِ الفرنسيةِ لمورثِهم بعد أسْرِه ، بالمخالفةِ لاتفاقياتِ جنيفٍ الأربعِ والبروتوكولاتِ الملحقةِ بها وقواعدِ العُرفِ الدوليِّ الآمرةِ – علي ما سلفَ بيانُه – ، ذلك أنَّ السعيَ الجادَ لحمايةِ حقوقِ المواطنينَ من عُدوانِ دولةٍ أجنبيِّةٍ لا يدخلُ في نطاقِ وظيفتِها ومسئوليتِها السياسيِّةِ كسلطةٍ تنفيذيةٍ فحسب ، بل يمثلُ التزامًا أخلاقيًّا وإنسانيًّا ، فضلًا عن أنَّه التزامٌ دستوريٌّ وقانونيٌّ على عاتقِ الدولةِ ، مما لا سبيلَ إلي إنكارِه أو النكولِ به ، فهي كما تفرض سيادتَها عن طريق أعمالِ السيادةِ التي لا تخضعُ لرقابةِ القضاءِ ، يجبُ أنْ تَبْسُطَ حمايتَها على مواطنيها من كلِ عسفٍ أو عدوانٍ على حقوقِهم سواءً كان المُعتدِيّ من داخلِ الدولةِ أو خارجِها ، وهو ما يأتي في صدارةِ واجباتِ الحكومةِ وأسمى وظائفِها .

زر الذهاب إلى الأعلى