النقض الجنائي
بقلم الدكتور أشرف نجيب الدريني
كيف يصل العقل القضائي إلى اليقين عندما تتنازع الأوراق روايات متباينة، وتتجاور في الملف اعترافات وتراجعات وتقارير فنية وشهادات متعارضة؟ هل يقبل المنطق أن تُبنى الإدانة على حجج مرتخية أو تسبيبٍ مجمل يستبدل البيان بالألفاظ الإنشائية؟ ومتى يكون طريق النقض ضرورةً أخلاقية قبل أن يكون إجراءً قانونيًا؟ وهل محكمة النقض تعيد محاكمة الوقائع، أم أنها تمسك بخيط القانون لتفتل منه معيارًا صارمًا لا يلين؟ هذه الأسئلة تقودنا خطوة خطوة إلى قلب الموضوع: كيف يُبنى طعنٌ ناجح يهدم حكمًا جنائيًا لم تُحسن محكمة الموضوع تسبيبه أو أخطأت في تطبيق القانون؟
القاعدة التي أبدأ بها دائمًا بسيطة وعميقة في آن: محكمة النقض محكمة قانون لا موضوع. لا تعيد وزن الأدلة ولا تفاضل بين شهادةٍ وأخرى، لكنها تحاسب الحكم على منطقه، وعلى سلامة بنائه القانوني، وعلى كفاية أسبابه وارتباطها بالأوراق. ومع ذلك فإن تعديلات قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض بالقانون رقم 11 لسنة 2017 أدخلت تعديلًا جوهريًا: أجازت للمحكمة، متى كان الطعن مقبولًا ومبنيًا على بطلانٍ في الحكم أو بطلانٍ في الإجراءات أثر فيه، أن تنقض الحكم وتنظر موضوعه مع اتباع الأصول المقررة قانونًا للجريمة محل الدعوى، كما خولت لها عند قيام مخالفةٍ للقانون أو خطأٍ في تطبيقه أو تأويله أن تصحح الخطأ وتحكم بمقتضى القانون.
مثال على ذلك: قضية اتجار في المخدرات، قضت محكمة الجنايات المستأنفة بعقوبة أشد من الحد الأقصى المقرر قانونًا. الطعن أمام النقض أُقيم على أساس مخالفة الحكم لنص القانون. محكمة النقض: لا تحتاج لإعادة القضية للجنايات، بل صححت الحكم مباشرة وجعلت العقوبة في حدود النص القانوني. هذا يوضح أن محكمة النقض هنا تفصل في الموضوع بنفسها دون إعادة الدعوى.
كما أبقت المادة (44) بعد تعديلها على الإحالة إذا كان الحكم المطعون فيه قد صدر بقبول دفعٍ قانوني مانعٍ من السير في الدعوى أو حكمٍ سابقٍ على الفصل في الموضوع يَحول دون السير فيها، مع التزام محكمة الإعادة التي أصدرته – مُشكلة من قضاة آخرين- بحكم النقض وعدم جواز الحكم بخلاف ما قررته الهيئة العامة. مثال على ذلك: لو أن محكمة جنايات مستأنفة أصدرت حكمًا بقبول دفع شكلي بعدم جواز نظر الدعوى لسبق الفصل فيها، وبالتالي منعت السير في الدعوى. لكن عند عرض الأمر على محكمة النقض، رأت أن الدفع غير صحيح، فقضت بـ نقض الحكم. في هذه الحالة، تُعاد القضية إلى محكمة جنايات مستأنفة أخرى مشكلة من قضاة مختلفين، لكي تنظر موضوع الدعوى من جديد. غير أنه لا يجوز لهذه المحكمة الجديدة أن تحكم بعكس ما قررته محكمة النقض بشأن الدفع (أي لا يجوز لها أن تعود وتقضي بعدم جواز نظر الدعوى لسبق الفصل فيها).
وكما نظمت المادة (46) عرض أحكام الإعدام حضوريًا على محكمة النقض، لتحكم وفق القواعد الواردة في الفقرة الثانية من المادة (35) والفقرة الثانية من المادة (39). مثال مبسط: لو أن محكمة جنايات مستأنفة قضت حضوريًا بإعدام متهم في جريمة قتل عمد، فإن هذا الحكم لا يصبح نهائيًا بمجرد صدوره، بل يجب عرضه وجوبيًا على محكمة النقض حتى ولو لم يطعن المتهم. فإن رأت النقض أن الحكم صحيح في تسبيبه وأدلته، صدقّت عليه، أما إذا تبين لها قصور أو خطأ في تطبيق القانون، فإنها تنقض الحكم وتعيد المحاكمة أمام دائرة جنايات مستأنفة أخرى.
من هنا تتولد أسباب النقض الحقيقية: الخطأ في تطبيق القانون أو تأويله، القصور في التسبيب، الفساد في الاستدلال، الإخلال بحق الدفاع، مخالفة الثابت بالأوراق، التناقض الذي لا يجتمع معه منطق قضائي سليم، والبطلان الإجرائي الذي ينسحب أثره على الحكم. وكما تعلم أن كل سببٍ من هذه الأسباب ليس عنوانًا شكليًا يمر مرور الكرام، بل معيارًا دقيقًا لا ينهض الحكم بدونه.
خذ مثلًا القصور في التسبيب: لا يكفي أن تقول المحكمة إنها «اطمأنت»؛ الاطمئنان وجدان، والوجدان القضائي لا يعيش في فراغ، بل يلزمه بيانٌ يُظهر مسار الاقتناع من واقع عناصر الدعوى. عندما تُدين المحكمة متهمًا بالاشتراك دون أن تُبين أفعال المساهمة وحدَّها الزمني ودليلها، أو تُقرر توافر القصد الجنائي في جريمةٍ تتطلب قصدًا خاصًا دون أن تُفكك عناصر هذا القصد في ضوء الوقائع، فهنا نكون أمام قصورٍ يَسِم الحكم بالعوار.
والفساد في الاستدلال وجهٌ آخر: أن تُحمِّل المحكمة الدليل ما لا يحتمل، أو تبني نتيجةً لا تسندها مقدماتها، كأن تستخلص من مكالمةٍ مقتضبة اشتراكًا جنائيًا محكم الأركان، أو تجعل من قرينةٍ محتملة دليلًا قاطعًا ينهض وحده لحمل الإدانة.
أما الخطأ في تطبيق القانون فيظهر حين تُخطئ المحكمة توصيف الواقعة أو تُسيء فهم النص، كأن تعتبر فعل الحيازة المجردة جريمةَ اتجارٍ بغير قرائن كافية، أو تُوقع عقوبةً خارج حدود النص، أو تتوسع في القياس حيث لا محلَّ له جنائيًا. ويبرز مخالفة الثابت بالأوراق عندما ينسب الحكم إلى تقريرٍ فني أو شهادة شاهدٍ ما لم يَرِد بها، أو يغفل مستندًا جوهريًا قُدِّم في حينه. وهذا خطأ جسيم؛ لأن النقض هنا لا يُعيد وزن الدليل، بل يُصحِّح تشويهًا لمدلولٍ ثابت.
وتحت عنوان الإخلال بحق الدفاع تندرج صورٌ دقيقة لا تحتمل التساهل: رفض طلبٍ جوهري بتحقيق دليلٍ منتج دون سببٍ سائغ، إغفال الرد على دفعٍ قاطع كالبطلان أو عدم الاختصاص أو انقطاع رابطة السببية، منع الدفاع من مناقشة خبيرٍ أو شاهدٍ رئيسي، أو مفاجأة الدفاع بتعديل وصفٍ أو إضافة ظرفٍ مشدد دون تمكينه من التعقيب. ومتى ثبت البطلان الإجرائي في القبض أو التفتيش أو الاعتراف لغياب الإذن أو لانعدام حالة التلبس أو لقيام إكراه، فإنه ينسحب على الدليل المتولد عنه بما يُضعف بنيان الحكم من أساسه.
كيف نلتقط هذه العلل في أوراق الدعوى؟ البداية من «صنعة القراءة». اقرأ الحكم كما لو كنت تُهندسه: أصل الوقائع كما سردتها المحكمة، ثم أدلة الثبوت كما اعتمدتها، ثم الاستدلال الذي ربط الوقائع بالنص. ضع خطًا تحت كل جملةٍ لا سند لها من الأوراق، وتحت كل انتقالٍ قفز فيه الحكم من واقعةٍ محتملة إلى نتيجةٍ جازمة. راجع محاضر الجلسات بحثًا عن دفوعٍ جوهرية سكت الحكم عنها، وعن طلبات تحقيقٍ رُفضت بلا تسبيبٍ كاف. ضع جدولًا لعناصر الجريمة: الركن المادي، المعنوي، علاقة السببية، الظروف المشددة؛ ثم اسأل: أين الدليل الذي يملأ كل خانة؟ إن وجدت فراغًا، فهناك ثغرةٌ للنقض.
في الجرائم المعتمدة على الدليل الفني، فتش عن «سلسلة الحيازة» للأحراز، عن توقيتات الاستلام والتسليم، عن تطابق البيانات، عن منهجية التحليل، وعن مدى مواءمة النتيجة للمقدمة. قد يبدو التقرير قاطعًا، لكن ثغرةً صغيرة في إجراءات الجمع أو الحفظ تُقوِّض يقينه. وفي الجرائم الرقمية، ابحث عن سلامة إجراءات الضبط والفحص، وعن إذن التفتيش الإلكتروني وحدوده، وعن نسب الدليل إلى صاحبه بنسبةٍ يقينية لا افتراض فيها، وعن تفسيرٍ علمي للعناصر التقنية لا يترك فجواتٍ منطقية يستحيل ملؤها بالظن.
الأمثلة العملية تكشف الطريق. في قضية اعتداءٍ جسيم، أُدين متهم اعتمادًا على شهادةٍ وحيدة مع تقريرٍ طبي موجز. عند الفحص الدقيق، تبيَّن أن الحكم لم يبيّن علاقة السببية بين الإصابة والنتيجة، ولم يواجه دفاعًا جوهريًا تمسَّك بتعارض التوقيتات بين تحريات الشرطة والتقرير الطبي. كان طريق النقض مُمهدًا: قصورٌ في التسبيب، وإخلالٌ بحق الدفاع، وتناقضٌ بين الوقائع الثابتة بالأوراق ومنطوق الحكم.
وفي دعوى مخدراتٍ، ثبت أن عيّنة المضبوطات تغيَّر رقمُ حرزِها في محطةٍ من محطات النقل دون بيان سببٍ أو توقيعٍ من المختص، ومع ذلك بنى الحكم إدانته على تقرير المعمل. هنا كان الدفع بانقطاع سلسلة الحيازة مُنتجًا، وانتهى النقض إلى نقض الحكم لبطلانٍ لاصقٍ بالدليل.
وفي واقعة احتيالٍ إلكتروني، استندت محكمة الموضوع إلى لقطات شاشةٍ دون أصلٍ رقمي ولا سجلاتٍ موثَّقة من مزود الخدمة، فأتى النقض مُصحِّحًا: لا حجية لصورٍ لا أصلَ لها ولا نسبَ ثابت.
كما تعلم، لا ينجح طريق النقض بكثرة الصفحات ولا ببلاغة الألفاظ، بل بترشيق الفكرة ودقة البناء. اكتب مذكرة الطعن وكأنك تضع عدسةً مكبرة على مواضع الخلل. عرّف الواقعة كما تبناها الحكم لا كما تتمنى، ثم هاجم الرابط القانوني بين هذه الواقعة والنص بتحديد مواضع القصور بندًا بندًا: هنا خطأ في تطبيق القانون؛ لأن النص يشترط قصدًا خاصًا لم يُبيَّن. وهنا فساد في الاستدلال؛ لأن النتيجة لا تنبني على المقدمات. وهنا إخلال بحق الدفاع؛ لأن المحكمة رفضت سماع خبيرٍ دون تعليل. وهنا مخالفة للثابت بالأوراق؛ لأن التقرير الفني لا يقول ما نُسب إليه. أرفق من أوراق الدعوى ما يؤيدك: مقتطفًا دقيقًا من محضر، سطرًا من تقرير، توقيتًا من سجل اتصال. لا تُغرِق المحكمة بإنشاء، بل ضع بين يديها خريطةً مختصرة توصلها إلى موضع العيب دون عناء.
تحديدُ الثغرات يبدأ من معرفةٍ دقيقةٍ بحدود سلطة محكمة الموضوع. هي سيدة الوقائع نعم، لكنها ليست سيدة القانون. فإذا تعارض منطقها مع أصول الاستدلال السليم، كان النقض لها بالمرصاد. راقب العبارات المعيارية: «اطمأنت المحكمة»، «استقر في وجدانها»، «لا تعويل على الدفع». هذه العبارات ليست خطأً بذاتها، لكنها تتحول إلى عيبٍ إذا جاءت بديلًا عن البيان أو غطاءً لإهدار دفعٍ جوهري.
استشعر التناقض الداخلي: حكمٌ يقرر أن الواقعة ثابتةٌ بشهادة الشاهد «أ» ثم يعرض عنه في موضعٍ آخر، أو حكمٌ يثبت عناصر الجريمة ويُنزل عقوبةً تخص وصفًا أشد لم يُقَم عليه الدليل. تحسَّس مواطن إغفال العناصر النفسية: القصد الجنائي، العلم، نية التملك، نية الإضرار؛ فكثيرًا ما تسقط من التسبيب في جرائمَ تتأسس عليها النتيجة.
ولا مِراء أن الطريق إلى النقض ليس طريقًا واحدًا؛ فإن استراتيجية العمل تمتد عبر محاور متشابكة: مراجعة ملف الإجراءات بحثًا عن بطلانٍ أصيل في القبض أو التفتيش أو إعلانٍ أو تشكيل المحكمة؛ تدقيق الأدلة الفنية والرقمية بسؤالين متلازمين: كيف جُمعت؟ وكيف فُحصت؟؛ تفكيك التسبيب إلى لبناته الأولى لفضح القفزات غير المنطقية؛ تسجيل كل دفعٍ جوهري أمام محكمة الموضوع لتأمين طريقه إلى «النقض»؛ وضبط لغة المذكرة على قدر الحاجة: واضحة، دقيقة، قائمة على نصٍ أو ورقةٍ أو منطقٍ قاطع.
وحين يكون الحكم قد شاع فيه العيب حتى تعذر ترميمه – قصورًا وفسادًا وتناقضًا – كان طلبُ النقض سبيلًا لإعادة طرح الدعوى أمام محكمة النقض للفصل في الموضوع وفقًا للمادة (39) بعد تعديلها، كلما كان مبنى النقض بطلانًا في الحكم أو في الإجراءات أثر فيه؛ أمّا إذا كان العيب قانونيًا محضًا لا جدل فيه على الوقائع، فالأصلح طلب النقض والقضاء بالبراءة متى استقام شرطه القانوني.
ويبقى السؤال الأخلاقي: هل النقض مجرد حيلةٍ إجرائية لإنقاذ متهم؟ الحقيقة أن النقض، حين يُمارَس بضمير، هو صونٌ للعدالة من خطأٍ بشري لا يسلم منه أحد. هو دفاعٌ عن دقة الحكم قبل أن يكون دفاعًا عن صاحب المصلحة. النقض لأن الحكم لم يحترم منطق القانون أو لأن أسبابه لم تبلغ حدَّ الكفاية، لا رغبةً في الإفلات. وحين تتأسس المذكرة على هذا الوعي، فإنها تُخاطب محكمة النقض بلغةٍ تحترم وظيفتها: حماية الشرعية الإجرائية والموضوعية، وتوحيد التفسير، وصون حق الدفاع.
في نهاية المطاف، الطعن بالنقض صنعةُ عقلٍ وضمير: عقلٌ ينحت من الأوراق طريقًا قانونيًا واضحًا، وضميرٌ يُذكِّر بأن الحرية لا تُمسُّ إلا «بحكمٍ مُحكم». وحينها فقط تصبح الأسئلة التي بدأت بها المقال قد وجدت جوابها العملي: نعم، يمكن هدم حكمٍ متهافت إذا التقطتَ ثغراته بدقة، وإذا بنيتَ مذكرتك على قانونٍ صريح ومنطقٍ مُحكم ووقائعَ لا تخونها الأوراق. هذه ليست مهارةً شكلية، بل احترامٌ للعدالة نفسها؛ فالنقض، في أحسن صوره، هو الطريق الذي يعيد بالحكم إلى الصورة التي تليق باسمه. والله من وراء القصد.