النشأة التاريخية للشركات المتعددة الجنسيات “2”

بقلم الدكتور/ وليد محمد وهبه المحامى

 

شَهِدَ العالم مع العقد الأخير من القرن العشرين تحوُّلات كبرى، لها عميق الأثر على المجتمع الدولي، وعلى مُجمَل المفاهيم التي كانت سائدة سابقًا، تَرافَق مع تلك التحوُّلات تَنامِي في ظاهرة “الشركات مُتَعدِّدة الجنسيات” على الاقتِصاد العالمي.

إن التصاعُد السريع لدور الشركات مُتَعدِّدة الجنسيات يُمَثِّلُ الظاهرة الأهم في الاقتِصاد العالمي، وبطبيعة الحال فإن هذه الشركات ليسَتْ ظاهرة جديدة طارئة، بل هي ذات امتِداد تاريخي، يعود إلى مرحلة الاحتِكار في الرأسمالية العالمية، بدءًا من الستينيَّات من القرن التاسع عشر، مرورًا بمرحلة الاحتِكارات الدوليَّة كالكارتيلات والتروستات، ومن هذا المنطلق ظهرَت الشركات الاحتِكارية وفروعها عَبْرَ العالم بتَدوِيل العمليَّات الاقتِصادية.

ويذهب معظم المختصين إلى القول بأن الظهور الحقيقي للشركات المتعددة الجنسيات    multinational companies  كان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث ظهر تطور تقني (تكنولوجي) وإداري وصناعي سمح بتقسيم الإنتاج في وحدات مختلفة من بقع العالم.

ويمكن تقسيم المراحل التي مر بها تاريخ الشركات المتعددة الجنسيات إلى ثلاث:

المرحلة الأولى: تبدأ من عام 185.م وحتى الحرب العالمية(1) الأولى في عام 1914م، وخلال هذه الفترة قامت الشركات البريطانية التي كانت مسيطرة على الاقتصاد العالمي بالاستثمار، وبخاصة في مجال الخطوط الحديدية والمناجم، وفي شمال أمريكا على الأغلب حيث تملكت الشركات البريطانية الأموال خارج حدود بلدها وقامت بإدارتها مباشرة وتحصيل أرباحها، ثم ظهرت الشركات الألمانية والفرنسية والهولندية وغيرها قبل ظهور الشركات الأمريكية قبيل الحرب العالمية الأولى مباشرة.

المرحلة الثانية: وقد امتدت بين عامي 1918 و1939م، وتميزت(2) باستمرار نمو الشركات المتعددة الجنسيات ولكن بسرعة أقل من بداياتها في المرحلة السابقة، وذلك بسبب ظهور سياسة حماية الاقتصاد الوطني في مواجهة الدول الأجنبية، فإن الحرب العالمية الأولى دفعت في اتجاه الحماية الوطنية، وأدت إلى نشوء أزمة اقتصادية حثت الدول على التدخل في الاقتصاد الحر، إضافة إلى أن ظهور الدول الشيوعية التي تقوم على الاقتصاد الموجه والمسيطَر عليه كليّاً من قبل الدولة أدى إلى الحد من النمو السريع للشركات المتعددة الجنسيات في أوربا، وهذا ما دفع إلى التوجه نحو التكامل الاقتصادي واندماج الشركات على المستوى المحلي.

أما المرحلة الثالثة: فتبدأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية في (1)عام 1945 وحتى اليوم، إذ حصلت الشركات المتعددة الجنسيات على أهمية وسلطات وصلاحيات لم تكن تتمتع بها سابقاً نتيجة تفكك الدول الشيوعية، وسيطرة نظريات الاقتصاد الحرّ، والحاجة الماسة للدول النامية إلى الاستثمارات الأجنبية المتطورة التي فرضت نظامها على النظام الاقتصادي الجديد على الرغم من وجود مجموعة من القواعد المتعلقة بحماية الاستثمار الوطني الذي نادت به اليابان في هذه المرحلة.

ولقد ظهر فى مصر مايقرب من 375شركة متعددة الجنسية فى سنة1948بلغ راسمال هذة الشركات حوالى 78مليون جنية ونشئات هذة الشركات اعقاب الحرب العالمية الثانية فى مصر حين تواجد الجيشان البريطانى والفرنسى مع دول المحور فى حرب العلمين ونتيجة ظروف الحرب وانقطاع المواصلات ووسائل الاتصال بين الجيوش ودولهم وادى ذلك الى قطع المعونات من اغزية وملابس وادوية فنشئات تلك الشركات لسد احتياجات الجيش وساعد ذللك فى النمو الاقتصادى للدولة.

حتى انتهت الحرب وتوقفت هذة الشركات عن عملها وادى ايضا الى تدهور فى الاقتصاد نتيجة تقليص دور هذة الشركات وتصفيتها وتسريح اكثر من100,000عامل وهذا يعتبر من ضمن الاثار السلبية التى يمكن ان تنتج عن تلك الشركات، وبعد الحرب العالميَّة الثانية تبَلْوَر شكل جديد لتنظيم الإنتاج الرأسمالي عبر أقنية الاستِثمار التي جسَّدتها الشركات مُتَعدِّدة الجنسيات؛ حيث أدَّى تحوُّل الاحتِكارات الرأسماليَّة من الإطار القومي إلى إحداث تغييرات شاملة في الاقتِصاد الرأسمالي وفي العلاقات الاقتِصادية الدولية، إن الحديث عن العلاقات الاقتِصادية الدولية لا يعني فقط العلاقات بين الأُمَم والدُّوَل.

وإنما أيضًا الحديث عن الدَّوْرِ المُتَنامِي للشركات مُتَعدِّدة الجنسيات في توجيه وتحديد مَضامِين هذه العلاقات، وتأثير ذلك على مَسار وأهداف سياسات التصنيع في الدُّوَل المُضِيفة للشركات، وكذلك امتِداد نشاطها ليَشمَل دُوَلاً عِدَّة، فهي على استِعداد لنقْل نشاطِها إلى أيِّ بقعة في العالم إذا ما أيقَنَتْ أنَّ فُرَصَ نجاحِها قويَّة دون أيِّ اعتِبار للوطن الأمِّ.

وقد استخدمت الشركات متعدِّدة الجنسيات نفوذَها العَمِيق(2) في مَيادِين مختلفة؛ كالاقتِصاد، السياسة، العلاقات الاجتِماعية في البلدان الرأسماليَّة، وأثرها في استِمرار تطوُّر الدُّوَل النامِيَة وفي نظام العلاقات الدولية، وكان النُّفوذ الاقتِصاديُّ لهذه الشركات يتركَّز بصورة واسعة لدى الشركات الأمريكية التي بدأَتْ استثماراتها تنمو وتَتعاظَم في دُوَل أوروبا الصناعية مع مشروع إعادة إعمار أوروبا، وفي مرحلةٍ لاحِقَة انتَقلَت الشركات متعدِّدة الجنسيات من الدُّوَل الصناعية إلى دُوَل العالم النامي لأسباب وعوامِل مختلفة؛ منها:الحاجة لتَعظِيم أرباحها والمحافظة على استمراريَّة نموِّها.

وقد نمت هذه الشركات نموا يفوق نمو اقتصاديات البلدان الرأسمالية المتطورة نفسها( ففي الصين بلغ معدل نموها السنوي 1.% وبلغ النمو الأقتصادي لهذه البلدان المتطورة 5% وبلغ عدد فروع الشركات متعددة الجنسيات عبر العالم حوالي ( 74 )  فرعا وتطورت عبر بداية السبعينات والثمانينات إلى حوالي ( 35) فرع ولاتزال في تزايد مستمر مما يشكل خطورة، وتؤدي الى السيطرة التامة على هذه البلدان مما يؤدي إلى استغلال طاقتها المختلفة  .

وعلى الرغم من الخسائر التي تعرَّضت لها الشركات متعدِّدة الجنسيات بعد الأزمة المالية العالمية وتعرُّض بعضها للإفلاس؛ كشركة (جنرال موتورز) الأمريكية، إلاَّ أنَّ واقِع الشركات متعدِّدة الجنسيات يبقى الفاعل الأكبر في سَيْرِ العالم نحو العَوْلَمَة الاقتِصادية؛ بسبب انتِشارها الواسِع ونشاطها الهائل الذي يمتدُّ داخِل كثيرٍ من الدُّوَل، وأنها الأداة شبه الوَحِيدة لتَصدِير العمليات الإنتاجية من المركز إلى الأطراف أمام هذا التوسع الهائل للشركات المتعددة الجنسيات، زاد الاهتمام بها على المستويات كافة وفي مختلف المجالات، وذلك نظراً للدور المؤثر الذي تقوم به في النطاقين الوطني والدولي.

وتكفي الإشارة إلى أنه في نهاية القرن العشرين تحكمت الشركات المتعددة الجنسيات بما يعادل 27% من الإنتاج العالمي، وتم من خلالها أكثر من 35% من المبادلات الدولية، وبهذا فهي تعد قوة اقتصادية لا يمكن التقليل من شأنها ومن تأثيرها في المجالين الوطني والدولي اقتصادياً واجتماعياً.

ومع التسليم بالدور المتنامي للشركات المتعددة الجنسيات في المجتمع الدولي، فإن الخلاف سرعان ما دبّ بين المعنيين بالأمر حول جدواها؛ فهنالك من يرى أن هذه الشركات تعد مرحلة من مراحل تطور المشروعات الرأسمالية، وهي بذلك تؤدي إلى التوسع الرأسمالي وتحقيق مزايا التكامل الاقتصادي، ولها دور فعّال في تنمية الاقتصاد العالمي، وتشغيل اليد العاملة، ونمو دول العالم الثالث وتظهر هذه الآثار الإيجابية بتنشيط الشركات المتعددة الجنسيات للتجارة الدولية، ونقل رؤوس الأموال إلى حيث تمسّ الحاجة إليها، وقدرتها على تطوير التقنية (التكنولوجيا) والنهوض بالمشروعات العمرانية في الدول النامية.

بينما يذهب آخرون إلى أن الشركات المذكورة تمثل تحدياً لسيادة الدول، وأنها نتيجة لذلك، تشكل مساساً خطيراً لهذه السيادة إن لم تكن تفريغاً لها من مضمونها، وآثارها السلبية تكمن في أنها، فضلاً عن السيطرة الاقتصادية، لا تراعي مصالح الدول المضيفة، وتستنزفذوي الكفاءات فيها، وتغريهم بالمرتبات الضخمة على الهجرة، وتعوّد الشعوب على استهلاك سلع كمالية تضر بالاقتصاد القومي وتنافس السلع المحلية، وانا اسير فى راى مع هذا الاتجاه.

وقد شهدت هذه الشركات المتعددة الجنسيات تطورا سريعا وخاصة في الستينات 196، وبداية السبعينات 197، حيث تسيرها البلدان الرأس مالية، كالولايات المتحدة الأمريكية، كندا، وبعض الدول الأوروبية انجلترا وفرنسا، مما ساعد هذه الشركات المتعددة الجنسيات التي يتواجد مقرها بدول المصنعة تتمتع بقوة إقتصادية هائلة، إلا أن المتتبع لتطور هذه الشركات ومعاملاتها يجد أن هناك عاملان يكونان هذا المشروع، يوج بينهما نوع من التناقص على ما يبدو وهما عامل الوحدة وعامل التعدد للشركة وهذان الوجهان لنفس الظاهرة يعدان الاصل وراء العديد من المشاكل القانونية .

وتعد الوحدة هي الميزة الأساسية للشركة المتعددة الجنسيات فهناك وحدة إتخاذ القرار ووحدة المعاملات ذات وحدة إستراتيجية موحدةأي مشتركة تعد عنصرا أساسيا في فكرة مشروع متعددة الجنسية.

وتعرف هذه الإستراتيجية دائما بالإشارة إلى العديد من الدول بتعايش الشركة (1)الأم المسيطرة ، على إصدار القرارات مع الدولة التي تنتمي إليها هذه الأولى فحين تتعايش فروع هذه الشركات التي تنتمي إليها.

وفكرة الإستراتيجية الموحدة تفرض وجود شركة أم تسهر على وضع خطة وبرنامج تسير عليه كل الوحدات الموزعة في العالم حتى تكون لها السيطرة ومن هنا تتحقق خطتها الشاملة وترجع هذه الخطة الموحدة المتمثلة في الإدارة الإم وتسمى الجهاز الإداري أي القيادة العليا وبالتالي مركز قرار واحد يقوم بإصدار الإوامر والقرارات.

وكذلك تكون على صلة بينها وبين الشركة الأم وبين الشركات التابعة لها ، وتفرض عليها طرقة تسيير ملزمة حتى تتحقق سياستها الشاملة ، و الشركة الأم تعين لها حدود حيادها وتفرض عليها أن تكون سياستها مستقلة مع السياسة العامة.

ويتوقف النجاح إلى حد كبير على التوفيق الحاذق و الفعال بين المطلبين:

أولهــا : وحدة إصدار القرار في مواجهة الكل المكون للشركة و المبادرات وخاصة المبادرات اللامركزية ، المحلية الصادرة عن فروع الشركة الأم فالإستراتيجية للشركة الأم ليست إلا مجموع القرارات الصادرة من مركز إصدار القرار وهذه العلاقة بين المركز والفروع المنشقة عنه تعد إحدى العلامات الاساسية للشركات المتعددة الجنسيات .

بينما الثـاني: ترجمة القانون بفكرة (2)التسلط و السيطرة و الرقابة ويقصد بذلك العلاقة الفعلية أو القانونية بين الطرفين وذلك عندما تأثر و تحدد القرارات الصادرة من إحداها على مسلك الطرق الأخرى وقد إهتم رجال القانون إلى حد كبير بتلك التناقضات الموجودة في الطابع الموحد للشركات متعددة الجنسيات من الناحية الإقتصادية و الطابع التعددي من الناحية القانونية.

وأن قوة انتشار الشركات المتعددة الجنسيات عبر العالم يعود لعملها الدؤوب وأحتكارها لجميع الأنشطةالصناعية والتجارية فالمتتبع لمسيرة هذه الشركات ومراحل تطورها وخاصة للدول النامية يجد بأنها تسعى بكل الوسائل للهيمنة على ثروات هذه الدول التي تستثمر فيها لإنهاك قواها في المجال الأقتصادي مقابل منتجات كانت أساسا عبارة عن مواد خام لثروات الدول النامية ” دول العالم الثالث ”  ثم تنتقل إلى البلدان الصناعية العظمى وتعاد في شكل مصنوعات وتبقى الصفة الأحتكارية ملازمة لهذه الشركات بدلا من احتكارها من دول العالم الثالث صاحب الثروة  .

وتهدف هذه الشركات للسيطرة على الثروات واستغلالها  لصالحها عبر العالم ، واحتكار السلع المعروضة في الأسواق أو حتى في مجال الخدمات ، ولاتتحقق الميزة الأحتكارية إلا إذا كانت لعدد قليل من أصحاب رؤوس الأموال مما يؤدي بهذه المعادلة إلى التحكم في أثمان هذه السلع والخدمات وخير مثال على ذلك هو بروز عدد قليل ومحدود من الشركات البترولية الكبرى بالاستحواذ والسيطرة على مجموع النشاط الإقتصادي البترولي على الصعيد المحلي والعالمي.

زر الذهاب إلى الأعلى