النسيان في القانون الجنائي

مقال بقلم: الدكتور أشرف نجيب الدريني

لن نناقش هُنا النسيان وعلاقته بالتقادم، أو العفو العام، أو حتى التسامح في بعض النُظم القانونية، وهي أمور قد تراود ذهن القارئ – المتخصص-عند مطالعة عنوان المقال. بل سنتناول النسيان في القانون الجنائي من زاوية أخرى. فهل يمكن أن يُعتبر النسيان سببًا للإعفاء من المسئولية الجنائية؟ هل النسيان مجرد غياب للذاكرة أم أنه يشير إلى حالة نفسية أو عقلية قد تبرر غياب النية الجنائية؟ وما هي الحدود التي يمكن من خلالها تحديد المسئولية الجنائية في حالات النسيان؟ هل يمكن أن يُعامل النسيان كظرف مبرر، أم أن القانون يجب أن يتعامل مع الأفعال الجنائية بمعزلٍ عن الظروف النفسية أو الصحية التي قد تؤدي إلى النسيان؟

في هذا المقال، سنركِّز على كيفية تعامل القانون الجنائي مع النسيان كسببٍ محتملٍ لارتكاب الجرائم، ومدى تأثيره في تحديد المسئولية الجنائية. النسيان هنا ليس مجرد غفلة عابرة، بل هو مسألة ذات أبعاد (قانونية ونفسية) معقدة تتطلب تمييزًا دقيقًا بين النسيان الذي ينشأ عن ظروف غير إرادية، وبين النسيان الناتج عن الإهمال. من خلال هذه التساؤلات، نسعى إلى فهم العلاقة بين (النسيان والجريمة) وكيف يتعامل القانون مع هذه الظاهرة التي قد يكون لها تأثير كبير على العدالة الجنائية.

النسيان في القانون الجنائي ليس مجرد فقدان للذاكرة أو غفلة عن أداء واجب، بل هو قضية قانونية مُعقدة تتداخل فيها أبعاد نفسية. من أجل فهم أعمق لهذه المسألة، يتطلب الأمر بحث كيفية تأثير النسيان على تحديد المسئولية الجنائية. فالقانون الجنائي ليس فقط آلية لمعاقبة الأفعال الإجرامية، بل هو أيضًا وسيلة لفهم الظواهر (الإنسانية) المحيطة بتلك الأفعال. فهل يمكن أن يكون النسيان عذرًا قانونيًا؟! أم أن القانون يفرض المُساءلة الجنائية بغض النظر عن الظروف التي أدت إلى النسيان؟ هذا هو السؤال الرئيس الذي يطرح نفسه في القضايا التي يتداخل فيها النسيان مع المسئولية الجنائية.

في الأنظمة القانونية، يُنظر إلى المسئولية الجنائية على أنها تتطلب وجود نية إجرامية، أي (القصد الجنائي). ومع ذلك، يُثار تساؤل مهم: هل يعفي النسيان الشخص من المسئولية إذا لم يكن لديه النية الجنائية؟ هنا يأتي دور القانون في تحديد ما إذا كان الفعل قد تم عن غير قصد بسبب النسيان، أم أن الفاعل قد أهمل أو تهاون في أداء واجبه، وهو ما قد يترتب عليه المسئولية الجنائية. فهناك تمييز قانوني دقيق بين النسيان الذي يحدث لأسباب خارجة عن إرادة الشخص، وبين النسيان الناتج عن الإهمال أو التقصير.

على سبيل المثال، في حالة شخص يعمل في قطاع طبي ونسى إعطاء دواء لمريض بسبب حالة صحية أو نفسية، قد يُنظر إلى هذا النسيان على أنه غير متعمد، وبالتالي قد يكون محط تخفيف في المسئولية الجنائية. في هذه الحالة، يجب أن تُفحص طبيعة الحالة النفسية أو العقلية للمتهم لتحديد ما إذا كان النسيان نتج عن ظرف غير إرادي. ولكن، هل يختلف الوضع إذا كان الشخص قد تعرض لضغط نفسي كبير بسبب ظروفه الشخصية أو المهنية؟ في هذه الحالة، قد يُطلب من المحكمة أن توازن بين تأكيد المسئولية الجنائية وبين التخفيف من العقوبة بِناءً على الظروف المحيطة.

كما أنه في حالات أخرى، قد يكون النسيان وسيلة للتلاعب بالقانون أو الهروب من المسئولية. فهل يُمكن أن يُستخدم النسيان كحجة للهروب من العقاب؟ على سبيل المثال، إذا نسى شخص دفع ضرائب مفروضة عليه، فهل يمكن أن يُعفى من العقاب لمجرد أنه نسى؟! في مثل هذه الحالات، يتعين على القانون أن يُفرِّق بين النسيان الحقيقي وبين الإهمال المتعمد الذي يحدث نتيجة لتراخي الشخص أو عدم اكتراثه بمسئولياته. النسيان هنا قد يكون جزءًا من خطة دفاعية تهدف إلى تخفيف العقوبة. بالتالي، لا يُمكن إغفال الأبعاد الإنسانية. فالقانون الجنائي لا يُعاقب فقط على الأفعال الإجرامية، بل يحاول أن يوازن بين (العدالة والرحمة).

فهل يجب أن يتم مراعاة الحالة النفسية للشخص، خاصة إذا كان النسيان ناتجًا عن عوامل خارجية؟ هل يجب أن يتساهل القانون مع الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم بسبب ظروفهم النفسية أو العقلية؟ أم أن المسئولية الجنائية يجب أن تظل قائمة بغض النظر عن الظروف النفسية التي قد تؤثر على قدرة الشخص على الوعي بما يرتكب؟

القانون في النهاية يسعى إلى تحقيق العدالة الجنائية، ولكنه في الوقت نفسه يتعامل مع الأفراد بوصفهم كائنات بشرية يمكن أن تتأثر بالعديد من العوامل النفسية والاجتماعية. ولذلك، فإن النسيان في القانون الجنائي ليس مسألة بسيطة، بل هو مسألة معقدة تتطلب فحصًا دقيقًا للظروف المحيطة بكل حالة على حدة. وقد يختلف التفسير القانوني للنسيان بِناءً على النظام القضائي وطبيعة الجريمة المرتكبة، إلا أن الهدف النهائي ي

بقى هو تحقيق العدالة والتأكد من أن المسئولية الجنائية تُقرَّر بناءً على الحقائق والظروف الدقيقة لكل جريمة على حدة.
وفي حالة غياب النية الجنائية أو القصد الجنائي، يمكن أن يختلف الحكم القضائي بشكل كبير بِناءً على تحليل ما إذا كان النسيان ناتجًا عن ظروف (نفسية أو عقلية)، أو إذا كان ناتجًا عن إهمال متعمد. وبذلك، يجب أن تتأكد المحكمة من أن التفسير القائم على النسيان لا يُستخدم كوسيلة للتهرب من المسئولية الجنائية، بل يكون عرضًا حقيقيًا للظروف التي تحيط بالمتهم.

في الختام، النسيان في القانون الجنائي هو قضية معقدة للغاية تتطلب توازنًا بين الأخذ بالظروف (الشخصية والنفسية) للمتهم وبين الحفاظ على العدالة. فهي ليست مجرد مسألة قانونية جامدة، بل هي انعكاس للطبيعة البشرية والظروف التي يمكن أن تؤثر على الفعل الإجرامي. لذلك، يجب أن يظل القاضي على دراية بماهية النسيان في سياق الجريمة، وأن يتعامل مع كل حالة على حدة، محققًا العدالة الجنائية بما يتناسب مع الحقائق والظروف المعروضة. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى