النبوة المحمدية أوائل النبوات
النبوة المحمدية
أوائل النبوات
نشر بجريدة الشروق الخميس 22/10/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يشير الأستاذ العقاد إلى أنه من قديم الزمان رغب الناس في العلم بالغيب واستطلاع المجهول ، وفقًا لعلامات كثيرة كزجر الطير والتفاؤل والتشاؤم بعلامات أو بكلام ، بيد أن الرغبة في استطلاع الغيب ومواجهة المجهول لم تكن كلها من هذا القبيل .
ومن قديم الزمن أيضًا وجد الكاهن « المختص » ووجد « الرائي » الملهم المزعوم أن الله يختاره للنطق بلسانه والجهر بوعده ووعيده ، ومع انتحال الرائين حالة الوجد أو الانجذاب أو الصرع ، كان الكهان هم الموكل إليهم التفسير وحل الرموز ، وكانوا يسمون الصرع بالمرض الإلهي .
ولكن الفرق بين الرائي والكاهن لم يبق ملحوظًا في الأزمنة المتأخرة كما كان ملحوظًا فى الأزمنة الغابرة ، وجعل العملان يصطدمان كثيرًا بعد ارتقاء الديانة .
وقد وجدت الكهانة والرؤية بين العبرانيين من أقدم عصورهم كما وجدت في سائر الأمم ، ولم يسموا الرائي عندهم باسم النبي إلاَّ بعد اتصالهم بالعرب في شمال الجزيرة ، لأن اللغة العربية غنية جدًّا بكلمات العرافة والعيافة والكهانة وما إليها .
النبوَّة والجنون
عرف الأقدمون من العرب والعبرانيين كلمة النبوة قبل بعثة موسى عليه السلام ، ولكنها لم ترتفع بينهم إلى مكانتها الجليلة التي نعرفها اليوم دفعة واحدة ، وظلوا دهرًا طويلاً يخلطون بينها وبين كل علاقة بالغيب ، وخلطوا بينها وبين الجنون ، كما خلطوا بينها وبين السحر والكهانة والتنجيم والشعر ، وأضعف من شأن النبوة لدى بنى إسرائيل خاصة أن الأنبياء بينهم كثروا وتعددت نبوءاتهم ، وأحيانًا في الوقت الواحد ، فتناقصوا وأقر بعضهم ما ينهى عنه آخرون ، فصاروا عندهم فريقين يتشابهون في المظهر ويختلفون في الرأي والصدق ، مع تعذر الفرز بين الصدق والكذب ، وغلبت عندهم عقيدة شائعة بذهول النبي وغيابه عن الوعي في جميع أيامه أو في أيام الوجد .
ويؤخذ من سفر صموئيل الأول أن المتنبئين كانوا يظهرون جماعات جماعات ، وجرى الحديث في ذات السفر عن أن الأنبياء يأتون « زمرة » .
وعلى ما كان يعتريهم من حيرة من تعدد النبوءات ، لم يكن بهم غنى عن النبي الصادق الذى يحذرهم غضب الله ويبلغهم مشيئته ويملى عليهم فرائضه وأحكامه .
وعلى هذا انقسم المتنبئون لديهم أقسامًا ثلاثة : نبي يتكلم باسم الرب ، ونبي يتكلم باسم آلهة أخرى ، ونبي يتكلم باسم رب إسرائيل ولكنه يطغى بما في قلبه على وحى ربه ، فيخلط بين ما يقوله هو بلسانه وبين ما يجريه الله على لسانه ليبلغه إلى قومه .
نبوءة الأحلام والرؤى
ومن الحق فيما يرى الأستاذ العقاد ، أن يذكر أن المتنبئين لم يتطلعوا جميعًا إلى مكان النبوة العليا ـ نبوة القيادة والتعليم والتشريع . ولم تكن نبوة الكثيرين منهم مستمدة من شيء غير الأحلام والرؤى وجيشان الشعور ، ويذكر الأستاذ العقاد أمثلة لذلك من سفر أرميا ، ومن سفر صموئيل ، ومن سفر دانيال ، ومن سفر أشعياء .
ويذكر أن الأنبياء الكبار خشوا على الشعب خطر المعجزات والآيات التي يدعيها المتنبئون ، لأنهم عرفوا عجائب السحر في مصر وبابل وأشفقوا من فتنتها على عقول السواد .
دليل الأمان
إن مهمة النبوة كما قام بها الأنبياء الكبار هي أعلى ما ارتفع إليه نظر الأقدمين من بنى إسرائيل وغيرهم إلى مقام النبوة ، فقد كانوا يعولون عليهم ويطلبون منهم ما لم يطلبوه قط من ذي ثقة أو مقدرة بينهم ، فانتهت بهم هذه المطالب كافة إلى غاية واحدة : وهى أن النبي « دليل أمان » . يقبلون منه التعليم والهداية ، ويطلبون منه هدايته لأنها دليلهم إلى الطريق الأمين ، ويستمعون له فيما يبلغهم به من أوامر الله ونواهيه .
ويجب عليه في نظرهم ـــ قبل كل شيء ـ أن يعرف الغيب ليعرف الخطر المتوقع ، وربما ليكشف لهم ما يريدون معرفته .
ولبثت مهمة النبي عندهم معلقة على دلالة الأمان فى المكان المجهول والزمان المجهول ، ولكنها دلالة الأمان من أخطار محسوسة .
ولم يبلغ أحد من أنبياء بنى إسرائيل مكانة أعلى من مكانة يعقوب الذى إليه يُنسب
بنو إسرائيل ، أو موسى الذى يدينون له بالشريعة ، ثم صموئيل وحزقيال وأرميا من أصحاب النبوءات غير المشترعين .
وقد كان الإنباء بالغيب هو المهمة الأولى من مهام هذه الطبقة ليذكروا مصائر أفراد معلومين إلى جانب مصير الأمة .
نبوة الهداية
واجب الإنصاف يقتضيني الإقرار بأنني فيما كتبته سلفًا ـــ وأكثر من مرة ـــ عن النبوة المحمدية ، قد استفدت كثيرًا وعمقت فهمى ونظرتي ، من كتابات الأستاذ العقاد في هذا الموضوع ، سواء في كتابه في موكب النور ، أم في كتابه عبقرية محمد ، أم في كتابات متفرقة له نشرت في مجموعات مختلفة .
وأعانني ما فهمته عن الأستاذ العقاد ـ على التوسع والإبحار في هذا الموضوع ، فتعددت وتنوعت كتاباتي فيه ، ولكن يبقى الفضل لصاحبه فيما أمدنى من تعمق لا زلت أجنى ثماره إلى اليوم .
وطبيعى أن يمتزج عرضى لنبوة الهداية فى مطلع النور ، بما استفدته وتأثرت به من كتابة الأستاذ العقاد ، فإذا لم أستطع الفصل بين الأصل وبين الصورة ، فإن الواقع أن كليهما مردود إلى الأصل ، يرحم الله صاحبه الأستاذ الذى أفاض وأبدع ، وأنار عقولاً وأفهامًا .
على خلاف النبوات التى ختمت فى بنى إسرائيل قبل البعثة الإسلامية بنحو تسعة
قرون ، جاءت النبوة المحمدية نبوة هداية ، ليست نبوة استطلاع للغيب ولا إفحام للعقول بالخوارق المفحمة المسكتة ، وإنما هى نبوة هداية أراد الله تعالـى لهـا أن تخاطـب وتفتــح « العقول » و« البصائر » ، لا أن تفحمها وتقعدها عن النظر والتأمل والتدبر والتفكير والفهـم ـ ليست مهمة النبي أن يعلم الغيب « إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ » ( يونس 20 ) ، وعلمه عند الله ، « وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ » ( الأنعام 59 ) ، « يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ » ( الأعراف 187 ) .. هذا المعنى الفارق لم يكن محض تصور متروك لاستخلاص الناس أصابوا فى ذلك أم أخطأوا ، وإنما هو توجيه قرآني صادر بأمر رباني صريح إلى النبي أن يبدى للناس أنه ليس إلاّ بشرًا رسولاً اصطفاه ربه لحمل وأداء الرسالة ـ « قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً » ؟ ( الإسراء 93) .. هذا الأمر الرباني ببيان جوهر الرسالة المحمدية ، ورد في معرض نقد تعلق الناس بالخوارق الحسية التي ثبت بتجارب البشرية أن مآل أثرها إلى الانقضاء والانطمار .. في ذات سورة الإسراء تقدمة لهذا الأمر والبيان الإلهي ، تنبيه واضح إلى الفارق الجوهري بين نبوة هداية قوامها القرآن ، وبين التعلق الضرير بالخـوارق الحسية ! .. تقول الآيات الحكيمات : « قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا * وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَـا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَـى فِـي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً » ( الإسراء 88 ــ 93 ) .. في تماحي أثر الخوارق ، وتلمس المكابرين التعلاّت والأسباب للتملص منها ، يقول القرآن المجيد : « وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ » ( الحجر 14 ، 15).. فليست الخوارق مما يغنى في دعوة المكابر المعاند المفتون ، ولا هي أداة الدعوات لمواجهة ما يأتي به قابل الأيام !!
لذلك أراد الإسلام لنبوة القرآن أن تكون نبوة فهم وهداية تدعو بكتابها المبين إلى النظر والتأمل والتفكير ، وليست نبوة استطلاع وتنجيم وخوارق وأهوال .. النبي ليس منجمًا ولا عالمـًا بالغيب ، وليست النبوّة نبوّة سحر أو رؤى أو أحلام أو قراءة طوالع وأفلاك .. « قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » ( الأعراف 188 ) .. لذلك حرص رسول القرآن أن ينحى عن أذهان الناس سمعة المعجزة المسكتة عندما جاءته ميسرة يوم كسفت الشمس وظن الناس أنها كسفت لموت ابنه إبراهيم ، فأبى عليهم ذلك ، ونبههم إلى أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفـان لمـوت أحد ولا لحياته .. ومع تعدد ما ورد في المأثورات عن المعجزات والآيات التي صاحبت مولد محمد عليه السلام وطفولته ، إلاّ أن عنايته الكبرى كانت بلفـت انتبـاه الناس إلـى معجـزة القـرآن وما ينطوى عليه من آيات ومدد لا ينقطع .