النبوة المحمدية
النبوة المحمدية
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
اكتمل للنبوة المحمدية ، وهى الرسالة الخاتمة ، المثل الأعلى للنبوات والرسالات فى ذوبان وتوارى الذات التصاقًا بالمعنى الكلى والولاء التام لله وحده .. فقد جاءت النبوة المحمدية مجددة ومكملة ومتممة للرسالات السابقة .. بها تمت رسالة الله ، وفى هذا المعنى الكلى للرسالة الإلهية ذابت الذات المحمدية ذوبانًا تامًا ، فحمل عليه الصلاة والسلام رسالته إلى الناس كافة ، منكرًا لذاته غير ملتفت إليها ولا حفيًّا بها ولا منحازًا إليها .. لا يهمه أن ينسب لنفسه فضلاً ولا مجدًا ..
رسالته عليه الصلاة والسلام لله ، ينقل فيها عن الله ما أوحى به إليه ، ساعيًا إلى إيمان الناس بالله ، والالتزام بدينه وشريعته .. لا يطلب من الدنيا صيتًا ولا مكانة ولا مجدًا
ولا مغنمًا ، ولا يسعى لثراء ولا غنى ، ولا يهمه أن يمتلك من الدنيا غاليًا أو رخيصًا ، ثمينًا أو بخسًا .. لا يشغله إلاَّ القيام بالرسالة الإلهية الموكولة إليه ، والتي فيها توارت ذاته والتصقت بالحضرة الإلهية ..
الحكمة الخالصة
في هذه النبوة إيمان فطري بأن العالم بما فيه من أحياء ، محكوم بحكمة خالصة ، وبأن الفارق الجوهري بين الإنسان وبين غيره ، أنه مسئول أمام خالقه ، فهو الوحيد الكائن المكلف المسئول عما يفعل وعما يدع وعما يحسن وعما يسئ ..
حياته عليه الصلاة والسلام يميزها عن حياة غيره ، كونها مركزة تركيزًا تامًا على هذه المسئولية بدعوة داخلية قاهرة ملازمة ، لا يستطيع النبي أن يهرب من « صوتها » ومن
« ندائها » في نهار أو ليل ، في أي مكان أو زمان .
لا استغراق ولا استئثار
وهذه الدعوة القاهرة الملحة ، جعلت ممارساته عليه الصلاة والسلام لحياته ، خالية في السر والعلن ـ من طابع الاستغراق أو الاستئثار ، ومن أي رغبة شخصية في الاستزادة .. هذا الاستئثار الذى يطبع نفس الآدمي عادةً ، غير موجود إطلاقًا في نفس النبي أو في ممارساته .. حياته كلها خالية من أي طابع للاستغراق أو الاستئثار أو الرغبة الشخصية ..
« ياء » الملكية ملغيّةٌ لديه ، يقول ولا يفتأ يقول : « نحن الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة » .. يقول لأبى ذر الغفاري ، وهو يشير إلى جبل أُحُد : « ما أحب أن أُحُدًا ذاك عندي ذهبًا ، أَمْسَى ثالثة عندي منه دينارٌ إلاَّ دينارًا أرصده لدين ، إلاَّ أن أقول به في عباد الله هكذا .. هكذا » .. وطفق عليه السلام يقول ذلك وهو يحثو التراب بين يديه عن يمينه ثم عن شماله .. ثم يناديه : « يا أبا ذر ؛ إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلاَّ من أعطاه الله خيرًا ففتح فيه يمينه وشماله بين يديه ووراءه وعمل فيه خيرًا » .
انقطعت صلته عليه السلام بالتملك الشخصي انقطاعًا يكاد يكون كليًّا ، فلم يملك مالاً يحسده عليه أحد ، أو يطمع فيه أحد .. وانقطعت صلته بالترف والتنعم والأبهة والفخامة التي تقوم مقام المال والتملك ..
يدخل عليه عمر بن الخطاب فيلفاه راقدًا فى بيته على حصير من جريد ، فيلحظ عمر آثار الجريد فى جنبه ، فلا يتمالك نفسه ، وتنثال عبراته ، فيسأله عليه الصلاة والسلام عما يبكيه ، فلا يملك إلاَّ أن يقول : ما أراك عليه يا رسول الله من خشونة عيش ، فذكرت كسرى وملكه ، وذكرت هرمز وملكه ، وصاحب الحبشة وملكه .. وأنت يا رسول الله على حصير من جريد ؟! » ، فيقول عليه الصلاة والسلام مواسيًا : « أما ترضى يا عمر أن لهم الدنيا ، ولنا الآخرة ؟! » .
ذوبان الذات والالتصاق بالله
كان ذوبان الذات المحمدية ، والتصاقها وتواريها في الله ، ولله ، واضحًا جليًّا في حياته ، وفى أحاديثه ، وفيما نقله إلى الناس من القرآن الذي أوحى به إليه ربه ..
هو لا يعلم ولا يدعى العلم بالغيب ، فكله لله : « إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ » ( يونس 20 ) .
وهو لا يدعى ثراءً ولا يرغب في ثراء ، ويتلو على أصحابه من تنزيل ربه وأمره إليه :
« قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ » ( الأنعام 50 ) .
هو محض رسول الله إلى الناس كافة ، يحمل إليهم رسالته سبحانه .. تتوارى ذاته تواريًا تامًا أمام جوهر هذه الرسالة : « وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كلُّهُ » ( هود 123 ) .
« وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ » ( الأنعام 59 ) .
لا يتنبأ ، ولا يعرف الساعة ، ولا يدعى العلم بها ، ولا يفتأ يقول : « يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ » ( الأعراف 187 ) .
لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا ، وحاله تنطق بذلك ، فيتلو عليهم من قول ربه : « قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » ( الأعراف 188 ) .
محبة الجميع له
لا غرو أحبه العبيد والفقراء والمستضعفون ، وأحبه الأشراف والأقوياء وذوو المكانة .. وغمرت الجميع عاطفته الإنسانية .. خلص من كل دواعي الشره ودواعي البطر والتنعم والترف .. عاش حياته بالغ التواضع ، يرتق ثوبه بيده ، ويخصف نعله بيده ، ويحمل بنفسه حاجته ، ويعمل مع أصحابه في حفر الخندق لحماية المدينة من هجوم الأحزاب ، ولا يستنكف أن يغبر التراب وجهه الكريم .. إذا قام معه أحدٌ من أصحابه قام معه ، فلا ينصرف عنه حتى يكون هو الذي ينصرف ، وإذا لقيه أحدٌ من أصحابه فرغب في تناول يده ناوله إياها ولا ينزعها من يده حتى يكون هو الذي يدعها ..
فيض رحمته
الاصطفاء والخضوع والتسليم
هذا نبي رسول ، ذابت وتوارت ذاته ، أو عاش خارج ذاته .. وهى خاصية متجلية بقوة في الرسالة المحمدية . النبوة ليست اختيارًا أو قرارًا شخصيًّا ، وإنما هي اصطفاء إلهي ، هذا الاصطفاء فرضٌ يأتي المصطفى للنبوة .. قوامه المدد والوحي والإلهام الإلهي .. النبوة ليست رغبةً إراديةً في نول المكانة أو المجد أو الصيت أو المال ، وإنما هي اصطفاء إلهي وفرض وخضوع وتسليم .. هذا التسليم انطوى في النبوة المحمدية على خضوع الإرادة الذاتية خضوعًا تلقائيا لذلك الغيب وحده وبلا شريك ، وهو شعور ملازم للنبوة ويميزها عن التصوف والتنسك ، فشتان بين هذا وذاك وبين النبوة التي يصطفى الله لها من يشاء حيث شاء !
الولاء المطلق للوحي الإلهي
كان من عدم التفاته لذاته ، والتصاقه بالمعنى الكلى ، والولاء التام لله ، أن سارع إلى نفى أي مظنة في أن آيات الكون سخرت له أو لخاطره أو لمواساته ، فسارع ينفى مظنة الناس أن الشمس كسفت لموت ابنه إبراهيم ، ويقول لهم : « إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ولا تكسفان لموت أحد » .
ترى هذا الذوبان في المعنى الكلى والالتصاق به والخضوع التام والولاء المطلق للوحي الإلهي ، حين خرج عليه الصلاة والسلام بما تنزل من آيات ربه التي ظاهرت رأى عمر وعاتبت في أسرى بدر « مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » ( الأنفال 67 ) .
عاش حياته عليه الصلاة والسلام بالغ التواضع ، راعيًا للمظلوم واليتيم ، ذامًا مجافيًا للكبر والعجب والخيلاء ، راعيًا للمحتاج ، بارًا بالضعفاء والمساكين ، محسنًا للفقراء والمعوزين مضيفًا لهم حانيًا عليهم ، فملك القلوب إلى أبد الآبدين .
لم ينحصر توارى الذات في الذات المحمدية وكفى ، بل امتد إلى بيته وأسرته ، فيقول لابنته الحبيبة أم أبيها : « يا فاطمة ، اعملي ، فإنني لن أغنى عنك عند الله شيئًا ..
يا آل محمد ، اعملوا فإني لن أغنى عنكم عند الله شيئًا » .
هذه نبوة لله ، أداء لرسالة الله .. لا يعنيها سوى هذا الولاء المطلق للوحي الإلهي ، والذوبان التام الخاضع للمعنى الكلى ، وصدق الوفاء به وتبليغه للناس ، ليست رسالة
زعامة ، ولا مكانة ، ولاهى مقصورة على إقليم من أقاليم الأرض ، ولا على أمة من
أممها .. ولا هي قد تغيت مجد أو منفعة قبيلة ، ولا منفعة أمة بعينها .. هي رسالة إلهية حملها محمد المصطفى ، قوامها أن الله حق وهدى ، وأن الإيمان به سبحانه مطلوب لأنه حق وهدى ، أداها عليه الصلاة والسلام صدوعًا وتنفيذا للوحي الإلهي الذي اتصل به مدده حتى وافى ربه جل وعلا .