المنظوم والمتروك في روعة الوجود!

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 27/6/2020

بقلم: رجائي عطية

يبدو أن نظام الوجود، رغم روعته وهيبته التي تسترعى الأنظار، فيه مجال متروك لحركة الأحياء وللمصادفات وأيضا لما نسميه الحظ والنصيب، ومع ذلك نرى أن الخالق عز وجل، لم يترك هذا المـجال بلا نظام، فأبدع له مُنَظِّمًا أشد دقة وحساسية من المنظمات الكونية التي تقوم بتنظيم توليد الطاقة وتوزيعها، هذا المنظم البديع هو ما نسميه «بالعقل».

العقل يستهدف خدمة الدوافع والأسباب والأغراض والغايات البشرية، وهو الذي يحسب ويقدر ويخطط مقدمًا لتحقيقها، ويدخل في حسابه حساب الميول والعواطف مع حساب الطاقات والوسائل، وهو جهاز الإنذار الذي يزعجه الخطأ في الحساب، ويزعجه بصورة أشد أن يقابل العشوائية والمصادفة وما نسميه بالحظ، فالعقل لا يعرف معيارًا ولا حسابًا لهذه العشوائيات!

كل ما نسميه حضارة أو رقيًّا أو تقدمًا أو نجاحًا، محمول فـي الواقـع والحقيقـة على العقل.. هذا «المنظم» الدقيق الحساس، أما نطاق هذا «المنظم» حسبما أبدعه فيه مبدعه، وهل هو مقصور على عالم الإنسان أم تدخل فيه عوالم أخرى للأحياء التي تعايش الإنسان، أم تبتعد أبعاده في كل اتجاه إلى كل موجود في الكون.. فذلك يدخل فيما وراء الطبيعة، ولم يهتد إليه إلى اليوم إنسان !

ما في حدود بشريتنا، أن الخالق -عز وجل- قد خلق الإنسان على عينه مدعومًا بالعقل.. هذا المنظم السحري.. ليجعل إليه عمار الكون.. فإن صحت الرؤية أن العقل ممدودة أبعاده إلى كل موجود في الكون، بدت هذه بشارة بعظمة قدر هذا المنظم الدقيق الحساس لدى مبدعه، وأنه تعالت حكمته قد جعل إليه ضبط حركة الحياة والأحياء، ومقاومة ومغالبة العشوائية والمصادفة والتخبط، لا في عالم الإنسان وحده، بل في الوجود كله، وأنه لا حدود لهذا العقل، لا في المكان ولا في الزمان، ولا في دوره وحاضره، ولا في مستقبله !

حين نرتد إلى دنيانا وحدودنا، نرى كم جعل الله العقل وسيلة لفهم وضبط كل شيء في حركة الإنسان، جعله سبحانه وتعالى منظمًا بديعًا للفهم والتدبر والتأمل والتفكير، وبوصلة لضبط رؤية ونشاط الآدمي.. وأفكاره وأعماله.. حتى الدين نفسه، لم تخرجه العناية الإلهية من إطار الفهم والعقل، فجعل نبوّة القرآن نبوّة فهم وهداية وتأمل وتفكير، وليست نبوّة استطلاع وتنجيم من آيات العقل في القرآن، تقررت فريضة التفكير في الإسلام.. ومنها يبين أن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يدرك الحقائق ويميز بين الأمور ويوازن بين الأضداد ويتبصر ويتدبر ويحسن الإدكار ويعصم الضمير من الجمود والعنت والضلال.

موقف الإسلام إزاء المنطق موقف عقلاني، فالقرآن الحكيم صريح في مطالبة الإنسان بالنظر والتمييز ومحاسبته على تعطيل عقله وضلال تفكيره، وهذا يتسق مع «المنطق» الذي يجمع علم الأصول والقواعد الت يستعان بها على تصحيح النظر والتمييز.

ولا يضيق الإسلام بالفلسفة؛ لأنها تفكير في حقائق الأشياء، ولأن التفكير في السماوات والأرض وآيات الوجود، من فرائضه المتواترة.

ومن هذه الآيات أن العلم في الإسلام يتناول كل موجود، فكل موجود يجب أن يُعلم، وهو علمٌ أعم من العلم المطلوب لأداء الفرائض والشعائر، ومطلوب وواجب لأنه غاية في ذاته، يفهم من العبارات التي تناولته أنه عبادة.

حتى الفنون الجميلة، فإن نصيب الفن الجميل في الدين يقاس بنظر الدين إلى الحياة، فلا مجال للفن الجميل في أي دين إذا كان يزدرى الحياة.

والإسلام قد انفرد بين الأديان بقبول نعمة الحياة وتزكيتها وحسبانها من نعمة الحياة التي لا تحرم على المسلم بل يؤمر بشكرها، «وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ» (الحجر 16)، وفي خلائق الله جمال يطلبه الإنسان كما يطلب المنفعة: «َلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ» (النحل6).

وكل من حرم هذه الزينة على الناس فهو آثم:

«قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق» (الأعراف 32).

إلى العقل، المنظم البديع، تكررت الإشارات الإلهية في القرآن المجيد إلى أنه مرآة فهم آيات الله في الكون، وأداة الفكر والنظر والبصر والتدبر والاعتبـار والذكر والعلم.. حيثما نظر الإنسان بعقله، تطالعه الصورة البديعة التي أجملها القرآن المجيد في وصـف المؤمنين:

«إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (آل عمران 190 ، 191).

زر الذهاب إلى الأعلى