المنتحر مجرم أم مريض؟ .. ويتجدد الحوار

مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

في مقالي المنشور على موقع هذه النقابة الغراء، نقابة المحامين العريقة، بتاريخ 24 سبتمبر 2021م، تحت عنوان «المنتحر.. مجرم أم مريض؟»، وفيما يتعلق بفلسفة التعامل مع حالات الشروع في الانتحار، وإعلاء شأن غرض التأهيل والعلاج على غرض العقاب والردع، أشرنا إلى المادة (335) الفقرة الثانية من قانون العقوبات الاتحادي، معدلة بموجب المرسوم بقانون اتحادي رقم (15) لسنة 2020م، بنصها على أن يجوز للمحكمة إيداع من يشرع في الانتحار مأوى علاجي بدلاً من الحكم عليه بالعقوبة المقررة لجريمة الشروع في الانتحار، وهي الحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر أو بالغرامة التي لا تجاوز خمسة آلاف درهم أو بالعقوبتين معاً.

وفي هذا المقال، ذكرنا أيضاً أن التعديل سالف الذكر قد تم بناء على مقترح مقدم من شرطة دبي إلى اللجنة العليا للتشريعات بحكومة دبي، طالبة تعديل المادة المشار إليها، على نحو يتم بموجبه إضافة تدبير إيداع الشخص المقدم على الانتحار في مركز للتأهيل، عوضاً عن إنزال عقوبة الحبس أو الغرامة عليه، وذلك بهدف الحد من ظاهرة الشروع في الانتحار، باعتبارها حالة فردية وليست مجتمعية، ومراعاة الوضع النفسي والظروف الاجتماعية والمادية لهذا الشخص، ومد يد العون له وتأهيله لتجاوز هذه الحالة التي يكون فيها في أضعف حالات الاستسلام لأي تأثير سلبي يدفعه لارتكاب أفعال من شأنها المساس بحياته وسلامته، والتي تصل إلى حد إنهاء حياته. كذلك، أشارت مبررات طلب التعديل إلى دراسة أجرتها شرطة دبي أكدت أن «جريمة الانتحار جريمة مغلفة في عقول مرتكبيها ولها دوافع متشابهة وأساليبها أيضاً متشابهة بل ومتطابقة، ويتسم المنتحر بطابع الاكتئاب والإحباط من أمر عجز عن حله، وتتجمع أفكاره وتنصب نحو إيجاد طريقة للتخلص من الحياة ويتردد في اتخاذ القرار المميت وقد يتكرر الإحساس من التفكير أو تكرار السلوك والتعامل فيلجأ مباشرة لتنفيذه». وتشير مبررات اقتراح التعديل أيضاً إلى تقرير حديث لمنظمة الصحة العالمية تؤكد فيه أن الانتحار يعتبر من الأمراض التي تحظى بالأولوية في برامجها، والتي تهدف إلى سد الفجوة في الصحة النفسية، وذلك من خلال توفير التوجيه التقني المسند بالبيانات لرفع مستوى تقديم الخدمات ورعاية الاضطرابات النفسية والعصبية والمتعلقة بتعاطي مواد الإدمان. وقد التزمت الدول الأعضاء بموجب خطة عمل منظمة الصحة العالمية للصحة النفسية 2013 – 2020 بالعمل من أجل تحقيق الهدف العالمي المتعلق بخفض معدل الانتحار في البلدان بنسبة 10% بحلول عام 2020م. كما تعد معدلات الوفيات الناجمة عن الانتحار مؤشراً من مؤشرات الغاية 3- 4 من أهداف التنمية المستدامة (تخفيض الوفيات المبكرة الناجمة عن الأمراض غير السارية بمقدار الثلث) من خلال الوقاية والعلاج وتعزيز الصحة والسلامة العقليتين بحلول عام 2030م.

وقد أبقى المشرع الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة على النهج ذاته، في قانون الجرائم والعقوبات، الصادر بالمرسوم بقانون اتحادي رقم (31) لسنة 2021م، والذي حل محل قانون العقوبات الاتحادي. فوفقاً للمادة (386) الفقرة الأولى من قانون الجرائم والعقوبات المشار إليه، «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على (6) ستة أشهر أو بالغرامة التي لا تزيد على (5000) خمسة آلاف درهم أو بالعقوبتين معاً كل شخص يشرع في الانتحار». وطبقاً للفقرة الثانية من المادة ذاتها، «يجوز للمحكمة إيداع الجاني مأوى علاجي بدلاً من الحكم عليه بالعقوبة المقررة للجريمة، وذلك وفق الضوابط الواردة في المادة (142) من هذا القانون». وبالاطلاع على المادة (142) من قانون الجرائم والعقوبات، نجدها تنص على أن «يرسل المحكوم بإيداعه مأوى علاجياً إلى منشأة صحية مخصصة لهذا الغرض حيث يلقى العناية التي تدعو إليها حالته. ويصدر بتحديد المنشآت الصحية قرار من وزير الصحة ووقاية المجتمع بالاتفاق مع وزير العدل. وإذا حكم بالإيداع في مأوى علاجي وجب أن تعرض على المحكمة المختصة تقارير الأطباء عن حالة المحكوم عليه في فترات دورية لا يجوز أن تزيد أي فترة منها على (6) ستة أشهر، وللمحكمة بعد أخذ رأي النيابة العامة أن تأمر بإخلاء سبيله إذا تبين أن حالته تسمح بذلك».

والواقع أن التعامل مع حالات الشروع في الانتحار بغير الطريق العقابي يتعزز أيضاً في ضوء التطورات التكنولوجية الحديثة والثورة الصناعية الرابعة أو ثورة الذكاء الاصطناعي. كذلك، وبدلاً من اللجوء إلى سلوك سبيل التجريم في مواجهة حالات الشروع في الانتحار، ونعني بذلك عقاب الشارع في الانتحار وليس عقاب المحرض، قد يكون من الأنسب البحث في الأسباب الحقيقية للشروع في الانتحار وتطوير المنظومة التشريعية الحاكمة للعديد من الموضوعات الأخرى التي يثبت وجود صلة بينها وبين الشروع في الانتحار. وبعبارة أخرى أكثر تحديداً، وبدلاً من الإسراع إلى تجريم الشروع في الانتحار، قد يكون من الأفضل تحسين الظروف المحيطة بالشخص الذي يفكر في الإقدام على الانتحار، من خلال تعديل قوانين الميراث بحرمان المدانين بالعنف المنزلي من الإرث والوصية إذا كان العنف المنزلي الذي مارسوه ضد الضحية هو السبب الذي دفعها إلى الإقدام على الانتحار.

استخدام الذكاء الاصطناعي للحد من الانتحار
في يوم الأربعاء الموافق الثلاثين من مارس 2022م، أعلنت شركة جوجل عن خطط لطرح أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر ذكاء، ستعمل للمساعدة في الحفاظ على سلامة الناس ومنع الانتحار. وقامت الشركة العملاقة بمشاركة معلومات جديدة حول كيفية استخدام أنظمة ذكاء اصطناعي متطورة جداً، لمنع الانتحار والعنف المنزلي. بالإضافة إلى ذلك، سيعرض محرك البحث جوجل معلومات بها تفاصيل حول كيفية طلب المساعدة، عندما يبحث الأشخاص عن عبارات تتعلق بالانتحار أو العنف المنزلي. كما ستظهر صناديق على الشاشة، بها أرقام الهواتف والموارد الأخرى المختصة بالمساعدة لمنع الانتحار، في دولة محددة، بالشراكة مع منظمات محلية وخبراء، عندما يشعر المحرك بأن المستخدم لديه نزعة انتحارية. وبفضل أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة، قد يعرف المحرك أن بحث المستخدم مرتبط بالانتحار، ويقوم بالتالي وتلقائياً بإظهار المعلومات الخاصة بالمساعدة لمنع الانتحار، دونما توجيه بشري. كذلك، سيقوم جوجل بنشر معلومات للمساعدة، ونشر أرقام منظمات لحماية المستضعفين أو الأشخاص الذين يحتاجون إلى الحماية من العنف المنزلي.
راجع في هذا الشأن:
Rachel Kraus, Google applies advanced AI to suicide prevention and reducing graphic search results, Google will read context clues when it matters most, Mashable, March 30, 2022;
Imad Khan, Google Using New AI to Better Detect Searches Made by People During Personal Crises, AI can help Google Search give information to those who need help, Cnet, March 30, 2022;
James Vincent, Google is using AI to better detect searches from people in crisis, Directing more searches to help and support, The Verge, Mar 30, 2022;
Paresh Dave, Google cuts racy results by 30% for searches like ‘Latina teenager’, Reuters, March 30, 2022.

حرمان المتسبب في الانتحار من الميراث أو الوصية
يذهب البعض إلى وجود صلة بين العنف المنزلي وبين الشروع في الانتحار في العديد من الحالات، معتقداً بالتالي من المناسب تعديل قوانين الميراث، بما يؤدي إلى حرمان الآباء الذين يمارسون العنف المنزلي من إرث المجني عليه، متى ثبت أن هذا العنف هو السبب الذي قاد المجني عليه أو الضحية إلى سلوك سبيل الانتحار. ففي مقال منشور على الموقع الالكتروني لأحد مكاتب المحاماة الإنجليزية الكائنة في العاصمة لندن (Burlingtons)، تحاول رئيسة قسم قانون الأسرة، وتدعى «ماييف أوهيجينز» (Maeve O’Higgins)، استكشاف الروابط بين العنف المنزلي والانتحار، وتلقي بالتالي الضوء على المناقشات ذات الصلة المتعلقة بقوانين الميراث. ويشير المقال إلى أن نائبة عن حزب العمال البريطاني، وتدعى «فلورنس إشالومي» (Florence Eshalomi)، تقوم بحملة لتغيير القانون بهدف حرمان الأشخاص المدانين بارتكاب العنف المنزلي من الإرث من ضحاياهم، في حالة إقدام الضحية على الانتحار بسبب تعرضهم للعنف المنزلي، بما يتماشى مع «قاعدة المصادرة» في الوصية، مما يمنع الشخص الذي أدين بالتسبب في وفاة شريكه السابق من الإرث في ممتلكاته.

ووفقاً للنائبة عن حزب العمال البريطاني التي قامت بإعداد مشروع القانون، فإن ما دفعها إلى ذلك هو أنها اكتشفت ثغرة في القانون الحالي، عندما لفت ابن أحد ناخبيها في فوكسهول انتباهها إلى قضية والدته الراحلة، والتي انتحرت بشكل مأساوي في شهر يونيو 2021م، عن عمر يناهز 56 عاماً، بعد إصابتها بالاكتئاب الشديد والمعاناة من نوبات الهلع في أعقاب حادثة العنف المنزلي الشديد التي ارتكبها زوجها ضدها، بينما كانا يقضيان عطلة في فرنسا في أغسطس 2019م. وعلى إثر هذه الحادثة، انفصلت الزوجة عن زوجها، وصدر ضد الزوج أمر بعدم التحرش الجنسي لها، وتمت إدانته لاحقاً في محاكمة جنائية بالاعتداء عليها. وفي التحقيق الذي أجرته السلطات في شهر نوفمبر 2021م، وجد الطبيب الشرعي أن انتحارها مرتبط بالعنف المنزلي الذي تعرضت له على يد زوجها الثاني. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا وحقيقة أن والدته حاولت تغيير شروط وصيتها التي تركت فيها كل شيء لزوجها (والتي كانت المحاولات غير فعالة لأسباب فنية)، وبدلاً من أنها كانت تنوي أن يرث ابناها، ورث الزوج ممتلكاتها بالكامل، والتي تتألف من منزل كانت تملكه قبل أن تقابله، بالإضافة إلى معاشها التقاعدي من NHS، حيث كانت تعمل كطبيبة عامة.

وعلى إثر هذه الواقعة، حاولت النائبة عن حزب العمال البريطاني إقناع الحكومة بالالتزام بإدخال تشريع لتغيير القانون، لمنع المنتهك من الاستفادة من تركة شريكه السابق بعد أن انتحرت. وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، وأعضاء آخرين في الحكومة، استقبلوا اعتراضاتها بتعاطف، إلا أن الحكومة لم تتخذ أي إجراء حتى الآن نحو تغيير القانون. ولكن ذلك لم يثن النائبة عن الاستمرار في حملتها الرامية نحو تعديل القانون، مؤكدة أنه إذا لم تفعل الحكومة ذلك، فإنها تعتزم مواصلة حملتها، بما في ذلك تقديم مشروع قانون خاص بأحد الأعضاء لتسليط الضوء على هذه المشكلة.

والواقع أن إلقاء الضوء على عدد حالات الانتحار المرتبطة بالعنف المنزلي وإبراز العلاقة بينهما لم يبدأ في الظهور إلا مؤخراً، نتيجة لعمل مختلف النشطاء، بما في ذلك عالمة الإجرام، البروفيسور جين مونكتون سميث (Jane Monckton-Smith)، والتي شددت على ضرورة التحسين في جمع البيانات التي تسجل حالات انتحار النساء اللائي تعرضن للعنف المنزلي. إذ تشير الأبحاث المحدودة المتوفرة حول الانتحار المرتبط بالعنف المنزلي إلى أن ما يصل إلى 1 من كل 8 حالات انتحار النساء ومحاولات الانتحار في المملكة المتحدة قد تكون بسبب العنف المنزلي – مما يعني أن حوالي 200 امرأة كل عام تنتحر بنفسها، نتيجة للعنف المنزلي الذي تعرضوا له. وبالإضافة إلى ذلك، وفي الثالث من مارس 2022م، والذي يصادف الذكرى السنوية الأولى لوفاة «سارة إيفيرارد»، التي قُتلت على يد ضابط شرطة في الخدمة، قام أكثر من 330 منظمة وجمعية خيرية وأفراداً وعائلات مفجوعة بتوقيع رسالة، تطلب فيها من الشرطة التعامل مع جميع حالات الوفاة المفاجئة غير المتوقعة للنساء المعروفات أنهن ضحايا للعنف المنزلي على أنها مشبوهة منذ البداية، من أجل توفير الأدلة اللازمة. ولعل ما يعزز من تأثير هذه الحملة أن تقرير وزارة الداخلية، الذي نُشر في العام 2015م، والذي أعاد فحص 32 حالة وفاة غير متوقعة لنساء قررت الشرطة أنها غير مشبوهة، حدد أن 10 منهن قُتلن بشكل غير قانوني وأن 8 من الوفيات الأخرى كانت مشبوهة، عندما تم النظر في حالاتهن مرة أخرى من قبل الطب الشرعي.
راجع في هذا الشأن:
Maeve O’Higgins, Review of links between domestic abuse, suicide and inheritance laws, published in the site internet (https://burlingtonslegal.com), 9 MARCH 2022.

زر الذهاب إلى الأعلى