“المصطلح القانوني” ودور “مجمع اللغة العربية” نحوه
[ فصول في "اللُّغتين القانونية والأصولية "(الفصل 17) ]
الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
[المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية ]
نظرًا لما يحظى به “المصطلح القانوني” عموما من أهمية والمصطلح القانوني اللغوي على وجه الخصوص بالنسبة للعلوم القانونية وعلم اللغة القانونية، فإنه يلزمُ لزومَ فرْض العين العنايةُ بكلِّ ما من شأنه تنميته وإثرائه واستيلاده وتعظيم أثره وحضوره في “العلوم القانونية” في واقع وأعمال القانونيين الكتابية والشفاهية، وهذا ما يجب أن ينهض به فرع مستقل من العلوم القانونية باسم “فرع المصطلح القانوني” باعتباره أحد فروع “اللغة القانونية”، كما ويلزم عما سبق ضرورة إثراء المكتبة القانونية بمعاجم رائدة في المصطلحات القانونية وفي كل مرادفاتها ومقارباتها ذات الصلة.
وليس يخفى علينا أهمية المعاجم اللغوية بالنسبة “للغة العربية” وفي جميع اللغات العامة والمتخصصة، إذ إنها مستودع اللغة -أيّ لغة كانت- وهي ذخيرتها ومادتها ، وهي بداية العمل العلمي والتنظيم المنهجي اللغوي الصحيح، ثم إنها أدوات تأهيل اللغويين ضبطا ونطقا معنى واشتقاقا. “فالتعريف الدقيق للمصطلح يميزه عن غيره من المصطلحات، ويحدد الأحكام الشرعية والقانونية التي يخضع لها، كما أنه يساعد في دراسة مختلف فروع الشريعة والقانون وفي تكييف العلاقات الشرعية والقانونية التي كثيرا ما تثير خلافا وجدلا في الحياة العملية” [د. عبد الواحد كرم، معجم مصطلحات الشريعة والقانون ، عن المقدمة سنة 1995م، د.م]
ولا اختلاف على ثراء المعاجم العربية عددا ومضمونا وكثافة ووفرة، غير أنه بعد فحص وتحقيق سوف نقف على حقيقة محصلتها (ضعف المعاجم التخصصية أو المتخصصة) إذ لا تزال قليلة نسبيا. وهذا حاصل بشدة في العلوم القانونية وفيما يتعلق باللغة القانونية على وجه الخصوص، على أنها من أهم الأدوات والأدبيات للحفاظ على تلك اللغة القانونية وخاصة في العلوم المستحدثة والعلوم الطبيعة بصورة خاصة، وهي كذلك ذات شأن عظيم في عمليات تعريب العلوم من حيث صوغ مصطلحاتها وتحرير معانيها، ثم إنها ذات أهمية كبرى بالنسبة للغة العربية التراثية أيضا وإن بطريقة غير مباشرة، غير أن ندرتها وفقر المكتبة القانونية عنها وافتقادها لها مما يحتم الوقوف عند تلك المعضلة والجد في التماس حلول علمية لها.
وفي هذا الفقر المعجمي نلمس جهودا لا يمكن الغفلة عنها في رفد المكتبة بأحد أهم تلك المعاجم اللغوية القانونية ، حيث قطع “مجمع اللغة العربية” في سبيل ذلك أشواطا محمودة – وننتظر المزيد- للحفاظ على اللغة القانونية وعلى تحرير أكبر قدر من المفردات والتراكيب والأساليب المقاربة لعمليات التعريب عموما وفي تعريب المعاني والمصطلحات القانونية على وجه الخصوص .
ويأتي هذا المقال لتكشيف جهود مجمع اللغة العربية في سبيل خدمة اللغة القانونية والعلوم القانونية في هذا السبيل ولطرح بعض المبادرات في سبيل إثراء الواقع المعجمي للغة القانونية بما تستحقه وتحتاجه هذه اللغة القانونية الشريفة وذلك في مسألتين.
المسالة الأولى: جهود مجمع اللغة العربية في تعزيز اللغة القانونية
قام مجمع اللغة العربية بعمل عظيم في سبيل تعزيز اللغة القانونية من خلال وضع معجم باسم: “معجم القانون” طبعة الهيئة العامة للشئون الأميرية: القاهرة 1999م. وقد بدأ العمل فيه منذ سنة 1940م ، وهو ما يدلُّ على الاهتمام المبكر باللغة القانونية منذ استقرار النظام القانوني الوضعي ورسوخ أجهزته ومؤسساته -إذ تم إلغاء امتيازات المحاكم المختلطة في 8 مايو سنة 1937م- ، فاجتمع عليه أعلام كثيرون “يتقدمهم شيخ القضاة عبد العزيز فهمي أول رئيس لمحكمة النقض وناقل مدونة جوستنيان في الفقه الروماني عن الفرنسية إلى العربية، ورأت هذه الكوكبة القانونية تأليف لجنة في المجمع لنقل مصطلحات القانون الفرنسية إلى العربية” [مجمع اللغة العربية : معجم القانون ص ( و) ، ط الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية 1420هــ- 1999م. ]
ومضيّا في سبيل التئام لغتي القانون والأصول معا فقد ضمت إليها مصطلحات علم الاقتصاد. وبدأت اللجنة في تأليفها بثلاثة أعضاء من المجمع، وهم القانوني الكبير عبد العزيز فهمي وشيخان سابقان للأزهر هما فضيلة الشيخ مصطفى عبد الرازق وفضيلة الشيخ إبراهيم حمروش ممثلين للشريعة الإسلامية، وحرصت اللجنة دائما على أن يكون فيها ممثل للشريعة الإسلامية أو أكثر من ممثل من أعلام الأزهر الشريف أو أساتذة الشريعة في كلية الحقوق، لسبب مهم هو أن الشريعة الإسلامية تحمل كثيراً من المصطلحات الفقهية التي يمكن أن تكون مقابلة لبعض المصطلحات القانونية الفرنسية [ السابق نفسه]، وهذا يتوافق مع أطروحتنا وافتراضاتنا في وثاقة العلاقة بين اللغة الأصولية بمصادرها الأصولية وبين اللغة القانونية على نحو ما سبق في المقالات السالفة.
كما ضمت اللجنة أيضا إليها” في بدء تأليفها من الخبراء فقيهاً قانونياً كبيراً هو الأستاذ الدكتور عبد الرزاق السنهوري، ودخل المجمع عضواً عاملا سنة 1946م ويشتهر بوضعه القانون المدني لمصر والعراق وسوريا وتشريعات الكويت، وشرح القانون المدني في سبعة أجزاء، وكتب في نظرية العقد في الفقه الإسلامي ستة أجزاء، ويعد أكبر فقهاء القانون في عصره، وأفادت منه اللجنة فوائد قانونية كثيرة”. وضمت آخرين إليها من الأعلام أيضا حيث دخل اللجنة بعض كبار رجال القانون مثل الدكتور محمد حسين هيكل والدكتور عبد الحميد بدوي الذي كان قد اختير مدة غير قليلة قاضيا بمحكمة العدل الدولية، وعين الدكتور علي بدوي أستاذ القانون الجنائي في كلية الحقوق وعميدها الأسبق عضواً في المجمع، فنضم إلى اللجنة. وممن انضم إليها وإلى المجمع من القانونيين الدكتور محمد مصطفى القللي عميد الحقوق الأسبق، وله مؤلفات قانونية متعددة تتميز بالإحاطة والأصالة.
واستعانت اللحنة ببعض أساتذة الحقوق في مجالات تخصصهم. وظلت اللجنة مكبة على وضع المصطلحات القانونية حتى أتمت وضع خمسة معاجم فرعية من معجم القانون الكبير. وانتقل إلى الدار الباقية الدكتور عبد الرزاق السنهوري سنة 1971 ثم الدكتور محمد مصطفى القللي سنة 1972. وكان من حسن حظ المجمع وحظ لجنة القانون فيه أن دخلهما في سنة 1974 علم من أعلام القانون في القرن الحاضر هو الأستاذ الدكتور أحمد عز الدين عبد الله عميد حقوق جامعة عين شمس طوال عشر سنوات متوالية، وسرعان ما أصبح مقرر لجنة القانون وربانها الماهر في إتمام معجم القانون بجميع فروعه [ مقدمة معجم القانون التصدير ص ( و) ] وقد صدَّر المعجمَ رئيسُ مجمع اللغة العربية الأستاذ الدكتور شوقي ضيف ، وأهدى المجمع هذا العمل للقانونيين من أساتذة الجامعات والطلاب والقضاة المحامين، وبحسب تاريخ البدء فيه يعدُّ من أوائل الأعمال العلمية الرسمية التي تتصل مباشرة باللغة القانونية بعد جهود العلامة رفاعة الطهطاوي حيث ترجماته العلمية وترجمة تلامذته [وهو على حد مقدمة المجمع :” ورفاعة الطهطاوي أول من عنوا بنقل القانون الفرنسي إلى العربية، وكان أول ما اختاره منها للنقل ” الكود”، نقله مع بعض النبهاء من تلاميذه إلى العربية في ثلاثة مجلدات طبعت سنة 1866 وأولها في القانون المدني، والثاني في قانون المحاكمات والمخاصمات، والثالث في قانون الحدود والجنايات. ونقل رفاعة وحده قانون التجارة الفرنسي وطبعه سنة 1868. وبفضله وبفضل تلامذته النبغاء نقل القانون الفرنسي إلى العربية، وظلت البعوث فيه ترسل إلى فرنسا حتى اليوم”.] وهو جدير بالالتفات والاحترام، ونصت مقدمته على أن: » هذا المعجم القانوني الكبير يشمل ثلاثة عشر معجما قانونيا فرعيا «
وصف المعجم :
يقع “معجم القانون” في جزء واحد من القطع الصغير وتعداد صفحاته سبعمائة ورقة ونيف، وجاءت مواده مقسمة إلى ثلاثة عشر بابا بحسب كل قانون وهي ما تمثل ثلاثة عشر معجما قانونيا فرعيا على حد ما تذهب إليه مقدمة المعجم، فابتدأت بالقانون الدستوري وانتهت بالقانون الدولي الخاص ، وجاءت مصطلحاته بالعربية والفرنسية ، ووقد قسمت أبوابه إلى الآتي :
الباب الأول: القانون الدستوري [ صفحة 37 ]
الباب الثاني: القانون المدني ص 38
الباب الثالث: قانون المرافعات المدنية التجارية ص 213
الباب الخامس: قانون الإجراءات الجنائية ص 292
الباب السادس: التشريعات الاجتماعية ص370
الباب السابع : القانون التجاري ص 410
الباب الثامن: القانون الإداري ص 455
الباب التاسع: القانون البحري ص 497
الباب العاشر: القانون الجوي ص 532
الباب الحادي عشر: التأمين ص 554
الباب الثاني عشر: القانون الدولي العام ص 585
الباب الثالث عشر: القانون الدولي الخاص 716
وعدد صفحاته الإجمالية (714)، كما “بلغ عدد مصطلحاته نحو ثمانية آلاف مصطلح”، أما بالنسبة لطريقة تأليفه فقد روعي فيه “الترتيب الهجائي العربي في كل فرع؛ على أن تكون الواو المهموزة في أول الواوات والياء المهموزة في أول الياءات. وقفينا كل فرع بفهرس ذي مدخل هجائي فرنسي” [السابق ص (ك) .] .
ويعد المعجم في موضوعه وبالنظر إلى واضعيه وفي منهجيته من المعاجم العظيمة والنوعية، ويعدُّ جهدا عظيما نوعيا جديرا بالإشادة والتنويه، وهذا لا يمنع من حاجته إلى استكمالات وإلى توسع يناسب ذلك الباب اللغوي القانوني الواسع، والمعجم بوضعه ونوعيته يعدُّ أهم أحد مرجعيات اللغة القانونية في الاصطلاح القانوني الوضعي المتعلق بموضوعات المعجم.
وأوصي السادة القانونية باقتنائه واصطحابه مرجعا أساسيا لهم ، كما وأوصي النقابة العامة للمحامين بإعادة طبعه ونشره وتوزيعه على السادة المحامين وإيداعه مكتبتها العامة ومكتبات الفرعيات ، وكذلك هو الشأن بالنسبة للمحاكم العليا المحكمة الدستورية ومحكمة النقض والمحكمة الإدارية العليا، أرى أنه من المهم بمكان إعادة طبعه ونشره وتوزيعه على السادة القضاة وهيئات النيابة بل وعلى المساعدين القضائيين.