المسيحية الرسالة أو الشريعة
نشر بجريدة الشروق الخميس 6/8/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
يذكر الأستاذ العقاد أن كل مراجعة تاريخية لذلك العصر، تنتهي من جانب البحث السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الديني أو الثقافي، إلى نتيجة واحدة، وهي أن ضحايا البذخ والرياء قد بلغوا من كثرة العدد وسوء الأثر حدًّا يفوق احتمال عصرٍ واحد.
وفى عصر كذلك العصر تلزم الرسالة.
ولكنها رسالة لا تلزم لتأتي العالم بمزيد من الشريعة ولا بمزيد من تطبيقها، فقد يأتي الضرر إذا جرى التطبيق على سنة الرياء وغلبة النفاق على الصدق والإنصاف.
إن الآداب الإنسانية هي الحاجة العظمى حين ينخر السوس باطن العرف والشريعة.
إنها رسالة قلب كبير يشعر فيجذب إليه كل شعور، ولا سيما شعور الضحايا والمظلومين.
في أحضان الدعوة بشارات بالخلاص والنجاة.
«طوبى للحزانى . طوبى للمساكين . طوبى للجياع والظماء . طوبى للمطرودين في سبيل البر . طوبى للودعاء والرحماء».
« تعالوا إلىَّ يا جميع المتعبين والمثقلين .. احملوا نيرى عليكم وتعلموا مني .. فتجدوا راحة لنفوسكم . لأن نيرى هين وحملى خفيف ..» .
* * *
كانت المرأة هي ضحية الضحايا في ذلك العصر، فإذا حنان طهور يغمر ضعفها ويجبر كسرها ويمسح اليأس من قرارة وجدانها، ويشيع الأمل في رحمة الله بين جوانحها، فيعلمها من دروس الحب القدسي ما لم تتعلمه من دروس العقاب في شريعة المنافقين وموازين المقسطين.
صورة الغفران ماثلة في شخص الرسول الكريم، وصورة التوبة ماثلة في شخص فتاة منبوذة جاثية على قدميه.. تسكب عليهما الدمع والطيب وتمسحهما بغدائر رأسها.
منذ الخطوة الأولى التي خطاها السيد المسيح في التبشير برسالته ـ أخذ على نفسه أن يعتزل «السلطة» ويتنحى لها عن ميدانها.
إنه نشأ في دنيا تشكو الكظة من الشرائع والأوامر والنواهي والحكام والمتحكمين.
لا حاجة إلى مزيد من الأحكام مع فساد الحكام.
إلاَّ أن السلطة التي تنحى عن طريقها، لم تترك له ميدانه، وسرعان ما أحست هذه السلطة ـ سلطة الدين على الأخص ـ بالخطر حينما لمست إقبال الجموع على الداعية المحبوب.
كان تبشيره بالغفران والتوبة أكبر ذنوبه في نظر هؤلاء الأساطين، لأن الخطايا والعقوبات بضاعة السلطان !
جاءوا يسوقونه إلى حيث أبى أن يُسَاق، وكان همهم الأكبر أن يثبتوا عليه أنه يبطل الشريعة، فأعنتوا عقولهم في البحث عن المشكلات والألغاز التي يُفتى فيها بما يخالف الشريعة الدينية والقوانين السياسية ليأخذوها حجةً عليه.
يقول عليه السلام لمن جاءه يطلب إليه أن يأمر أخاه أن يقاسمه الميراث: «أيها الإنسان، من أقامني عليكما قاضيًا أو حسيبًا ؟».
يتصايح الكتبة والفريسيون: «أيها المعلم: هذه امرأة أُخذت وهي تزني، وقد أوصانا موسى أن نرجم الزانية، فماذا تقول أنت ؟».
سبق إلى ظنونهم كل جواب، إلاَّ أن يقول لهم ما قال: «من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم وليرمها بحجر».
وقفت المرأة المسكينة وقد انفض الجمع، فيسألها سؤال العارف: «أين المشتكون منك ؟ أما دانك أحد ؟ » . قالت : لا أحد أيها السيد ، فأرسلها عليه السلام وهو يقول: «ولا أنا أدينك.. فاذهبي ولا تخطئي».
شريعة الحب
لم يصعب على السيد المسيح أن يحطم «الشرك السياسي» الذي نصبوه ليسمعوا منه إشارة بإعطاء الجزية أو بعصيان الدولة، ولم يصعب عليه أن يسكت الصدوقيين والفريسيين معًا.. يأتيهم جوابه المفحم عن تساؤلهم بمن تبنى زوجة المتوفى إذا لم يتزوجها أخو زوجها كما تقول شريعة موسى، فيقول لهم عليه السلام: «لأن الأحياء في العالم الآخر لا يتزاوجون زواج هذا العالم، ولا يتناسلون !».
إن الجمود والرياء كلاهما موكل بالظواهر.. ومن الجامدين من يفخر بعلمه بالنصوص والشرائع، ويقيس علمه بمبلغ قدرته على اختلاق العقد والعقبات.. ويحدث ذلك لكل شريعة على أيدي الجامدين والحرفيين.
لا حساب عند هؤلاء للنفس البشرية، وإنما الحساب كله للحرف والنص المكتوب، بينما النفس البشرية هي الفريسة التي يتكفل العقاب باقتناصها وإغلاق المنافذ عليها.
* * *
إذا صار أمر الفضائل إلى الظواهر والأشكال ـ تساوى فيها الصدق والرياء.
إن الجمود والرياء كلاهما موكل بالظواهر.
وعالم الظواهر غير عالم الضمير.
قالوا إنه عليه السلام عمل في يوم السبت، وسخر من المحرمات، وتستطيع إن شئت أن تقول إنه نقض كل شيء، وتستطيع أيضًا إن شئت أن تقول إنه لم ينقص منها ذرة !
ذلك أنه عليه السلام لم ينقض إلاَّ شريعة الأشكال والظواهر، وجاء بشريعة الحب أو شريعة الضمير.
وشريعة الحب لا تبقى حرفًا من شريعة الأشكال والظواهر.. ولكنها لا تنقض حرفًا واحدًا من شريعة الناموس بل تزيد عليه.
إن الناموس عهد على الإنسان بقضاء الواجب.
أما الحب فيزيد على الواجب، ولا ينتظر الأمر ولا ينتظر الجزاء.
الحب لا يُحَاسب بالحروف والشروط، ولا يُعَامل بالصكوك والشهود، ولكنه يفعل ما يُطْلب منه ويزيد عليه.
وبهذه الشريعة -شريعة الحب- رفع المسيح للناموس صرحًا يطاول السماء.
في شريعة الكبرياء والرياء، يُلْزم من يتخذ الدين سبيلاً للغو والتعالي على الآخرين، فيقول عليه السلام للمتعالي المزهو بنفسه: «لماذا تنظر إلى القذى في عين أخيك ولا تنظر إلى الخشبة التي في عينك ؟ !» .
يلزم في شريعة الفرح بالعقاب والسعي وراء العورات، من يسوق المرأة الخاطئة شامتًا في المواكب ويخف إلى مواقف الرجم.
بينما يلزم في شريعة الحب من يبهت ذلك الجمع المنافق ويكشف له رياءه ويرده إلى الحياء.. مثلما ارتد إلى الحياء من سمعوا عبارة «من لم يخطئ منكم فليرمها بحجر !» .
يلزم في شريعة الرياء والكبرياء أن يفخر المعطى بما يعطيه ويستطيل على الفقراء !
ويلزم في شريعة الحب أن تستتر أعمال المحسنين بغير تظاهر ولا استعراض، فلا تعلم الشمال ما تفعله اليمين أو تعطيه.
* * *
مجمل القول أن الخير كله كان في شريعة الظواهر والأشكال، أو شريعة الكبرياء والرياء، كان مسألة «امتياز رسمي» يحتكره البعض بفضل العنصر والسلالة.
فلما قامت الدعوة المسيحية بشريعة الحب والضمير، كانت كلمتها هي الكلمة التي تقال في كل دعوة أو استئثار أو احتكار.
ليس الخير حكرًا للنسب والسلالة «بل الذي يعمل مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي».. «إن كثيرين يأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب على أرائك الملكوت، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة بالعراء».
* * *
إن الرحمة عمل، لا نسبة ولا حرفة.
والدين بما تعمل لا بما تعلم.
وعندما تعالوا عليه بالأسئلة عن أسرار الكتب وألغاز الفرائض والوصايا، وسألوه أيهما أعظم في الناموس ؟ لم يزد على أن قال لهم في كلمات معدودات: «أن تحب ربك بجماع قلبك ومن كل نفسك وفكرك، وأن تحب قريبك كما تحب نفسك».
على ذلك , وغيره , يعلق الأستاذ العقاد فيقول : « هذا كل ما يلزم العابد الصالح أن يحتقبه من القماطر والأوراق، ولا تكون العقبى أنه يهدر الفرائض والأحكام وأنه يستبيح ما لا يباح، بل لعله يتشدد حيث يترخص النصوصيون والحرفيون، كما يتشدد الإنسان حين يحاسب ضميره ويصنع في سبيل الحب ما لا يصنعه في سبيل الواجب، وكل ما هناك أن تصبح الفضيلة وحى النفس وحساب ضمير , ولا يصبح قصاراها وحى القانون وحساب الصكوك والشروط، وأساليب الروغان من بين السطور والحروف.
«لا جرم كانت شريعة الحب والضمير أشد وأحرج من شريعة الظواهر والأشكال، لأن الضمير موكل بالنيات والخواطر قبل الأفعال والوقائع، ولأنه يحاسب صاحبه على همساته ووساوسه ولا يتركه حتى يعمل ما يضر أو يسوء.
«قيل للقدماء لا تقتل ومن يقتل وجب عليه العقاب، أما أنا فأقول لكم إن من يغضب على أخيه باطلاً يأثم ويجزي.. فإن قدمت قربانك وذكرت حقًّا لأخيك عليك، فدع قربانك أمام الذبح واذهب فصالح أخاك».