المستريح الإلكتروني

بقلم: الدكتور أشرف نجيب الدريني

كيف يمكن أن يتحول الاحتيال التقليدي إلى نموذج رقمي مُحكم يصعب كشفه وملاحقته؟ ولماذا يقع آلاف الأشخاص ضحية لعمليات احتيال إلكترونية رغم التحذيرات المتكررة؟! وهل القوانين الحالية كافية لردع هذه الجرائم، أم أن الحاجة أصبحت ملحّة لتطوير منظومة تشريعية أكثر تطورًا؟ في ظل تسارع التطور التكنولوجي، باتت الجريمة تتكيف مع الوسائل الحديثة، لتعيد إنتاج أنماطها التقليدية بأساليب أكثر دهاءً وتعقيدًا، مستغلة طموح الأفراد ورغبتهم في تحقيق مكاسب مالية سريعة دون إدراك المخاطر القانونية والاقتصادية الكامنة.

المستريح الإلكتروني ليس سوى امتداد رقمي للمحتال التقليدي، لكنه يستغل الأدوات الحديثة لتحقيق أهدافه بأقل مجهود ممكن، دون الحاجة إلى اللقاء المباشر مع ضحاياه. مواقع التواصل الاجتماعي، الإعلانات الرقمية الممولة، والمجموعات المغلقة على تطبيقات التراسل، جميعها أصبحت ساحات لاصطياد ضحايا يبحثون عن فرص استثمارية تبدو مربحة لكنها في الواقع ليست سوى خدعة محكمة. يقوم الجاني بإيهام ضحاياه بقدرته على تحقيق أرباح خيالية خلال فترات وجيزة، مستندًا إلى نماذج احتيالية مثل “مخطط بونزي”، حيث يتم دفع أرباح وهمية للمستثمرين الأوائل بأموال المستثمرين الجدد، مما يعزز وهم المصداقية ويدفع المزيد من الأفراد إلى الانضمام، حتى ينهار المخطط تمامًا ويختفي المحتال بالأموال.

الواقع يشير إلى أن هذه الجرائم لا تقتصر على النصب المباشر، بل تتشابك مع جرائم مالية أخرى، مثل غسل الأموال، والاحتيال عبر العملات الرقمية، مما يجعل ملاحقة الجناة واسترداد الأموال أكثر تعقيدًا. في مصر، برزت العديد من القضايا التي كشفت عن مدى تنظيم شبكات الاحتيال الإلكتروني، وكان من أبرزها قضية منصة “FBC”، التي تمكنت من خداع آلاف المستثمرين بوعود زائفة حول الاستثمار في البرمجيات والتسويق الرقمي، قبل أن تنهار فجأة تاركة وراءها ضحايا خسروا مدخراتهم. ورغم الجهود الأمنية التي أفضت إلى ضبط عدد من المتهمين، فإن استعادة الأموال المهربة تظل التحدي الأكبر، في ظل لجوء المحتالين إلى تقنيات التشفير والتحويلات المالية العابرة للحدود. وفي هذا السياق، أصدرت دار الإفتاء المصرية بيانًا تحذر فيه من الانسياق وراء الإعلانات المضللة والوعود الزائفة بالثراء السريع، مؤكدة أن هذه الممارسات تندرج ضمن صور الغش والتدليس المحرمة شرعًا، داعية الأفراد إلى توخي الحذر وعدم التعامل مع الجهات غير الموثوقة التي تستغل التطورات التكنولوجية في الاحتيال المالي.

الإطار القانوني الحالي يوفر أساسًا لمعاقبة مرتكبي هذه الجرائم، إلا أن التطبيق العملي يكشف عن ثغرات تستوجب التحديث. قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 يعاقب مرتكبي جرائم الاحتيال الإلكتروني بالحبس والغرامة، لكنه يواجه تحديات حقيقية في ملاحقة الجناة الذين يستغلون الأدوات الرقمية لإخفاء هويتهم وتعقيد عملية تعقب الأموال المنهوبة. مقارنة ببعض التشريعات الدولية، نجد أن بعض الدول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تبنت تشريعات أكثر تطورًا، تتضمن آليات لتعقب المعاملات المالية الرقمية، وإجراءات مشددة لتجميد الأصول المشبوهة، فضلًا عن تعاون وثيق بين الأجهزة الأمنية والمصارف لكشف العمليات الاحتيالية قبل وقوعها.

التطور التكنولوجي ذاته الذي يستغله المحتالون، يمكن أن يكون سلاحًا فعالًا في مكافحتهم. الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة أصبحت أدوات رئيسية لكشف الأنماط الاحتيالية، وتعقب الحسابات المشبوهة، إلا أن نجاح هذه الأدوات يعتمد على تعاون فعّال بين المؤسسات المالية والجهات التشريعية والأمنية. تطوير التشريعات يجب أن يسير جنبًا إلى جنب مع التوعية المجتمعية، فمهما بلغت القوانين من صرامة، ستظل الحلقة الأضعف هي الضحية التي تنساق وراء وعود غير واقعية، دون التحقق من مصداقية الجهات التي تدعي تقديم فرص استثمارية مربحة.

المستريح الإلكتروني هو تجسيد للاحتيال الرقمي المقنن بذكاء، الذي يستغل الثغرات القانونية والتقنية ليعيد إنتاج الجريمة في شكل أكثر تطورًا، لكن المواجهة الفعالة لا تقتصر على العقوبات وحدها، بل تتطلب رؤية شاملة تتضمن تحديث التشريعات، تعزيز التعاون الدولي، تطوير الأدوات التقنية، والأهم من ذلك رفع وعي الأفراد، لأن أكبر نقاط الضعف التي يستغلها المحتال ليست سوى الجهل والطمع.

“ليس كل بريق ذهبًا، ولا كل استثمار ثراءً، فبعض الطرق المعبدة بالأرباح الوهمية لا تؤدي إلا إلى الخراب.” والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى