المساواة وعمار الحياة
من تراب الطريق (922)
المساواة وعمار الحياة
نشر بجريدة المال الخميس 27/8/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
ليس مرد التطامن والمساواة في الإسلام، فيما يلاحظ أستاذنا محمد عبد الله محمد في كتابه الضافي «معالم التقريب»، أن الإسلام يزهد في الحياة على هذه الأرض أو يزدريها، فكيف يحتقر الإسلام الحياة وهي مرتقى المسلم وفرصته الثمينة لتنمية عقله وروحه، والاكتتاب برصيده في الحياة الآخرة.
إن الامتحان الحقيقي للإنسان هو هنا.. على هذه الأرض.. فالدار الآخرة لا تكليف ولا اختيار فيها، لأنها خير محض، لا مجال فيها لتقارع بين الخير والشر، ولا لتوزع الإنسان أو موازناته للبحث عن خياراته أي طريق يسير فيه!!
في هذه الأرض يصنع الإنسان موازينه، ويربى كفته، ويحدد مصيره في الحياة الآخرة.. لذلك فالإسلام لا يحتقر ومحال أن يحتقر الحياة، ويخطئ من يظن أن الإسلام يعطى ظهره للحياة أو يحتقرها، فأولى وأهم غاياته هي عمارة الحياة.. وهذه «العمارة» هي حصاد ما يبذله الإنسان في دنياه من السعي والجهد والاجتهاد.. ولا ينبغي للمسلم أن يهرب من الحياة، ففي ذلك تعطيل لسنن الله، بل عليه أن يعيشها بحماس في ظل الله، وأن يتمسك في سعيه بالصورة الإسلامية التي تعلى القيم والمبادئ وتحوط بها الحياة وتثريها، وتحفز المسلم على الاستمساك بها، وعلى متابعة النور الذي يهديه إليه دينه.
المسلم السوى الفاهم لا يحار أبداً ماذا يصنع بحياته ونواتجها.. ولا يعاني ما يعانيه الأشقياء المحصورون في جمع المال والسلطة، ولا الواقعون في هذه العدمية أو العبثية.. فهو يعرف لحياته معنى وغاية.. ويتعامل مع هذه الحياة بعمق وجد وإخلاص واجتهاد.
أما التسليم لله، فهو إيمان وليس انهزاما.. ولذلك فإن التسليم يَبْطُل ويفقد معناه في نظر الإسلام إذا انطوى على تسليم لغير الله عز وجل… فمخافة الله، وهي فرع على الإيمان الخالص به، تزول إذا طوى المسلم جوانحه على خوف من مخلوق.. الخائف من المخلوق لا أمان ولا لإيمان له، والمؤمن الحق لا يعرف الجبن والاستكانة، والذي يخاف الموت يموت في كل لحظة!!
لقد أعطت بعض العادات والاعتقادات مفاهيم مغلوطة ألصقت خطأً بالإسلام، وهي ليست من الإسلام.. فالولاء والتبعية والرضوخ والتقرب للأقوياء والباطشين من الفانين الهالكين، ليست من الإسلام، وإنما هي ضعف ووهن في العقيدة.. كثيرا ما تفرض أحكاما وأعرافاً مبناها التساهل والإغضاء.. وهو ما لا يرضاه الإسلام ولا يقره.
يجب أن يتنبه المسلمون إلى الاختلاف الأساسي بين «المساواة» في نظر الإسلام، وبين معناها في زماننا.. المساواة في الإسلام معنى روحي ونفسي، له آثار سلوكية وخارجية تعبر عن تحسن الناس من داخلهم، أما «المساواة» في زماننا، فهي معنى سياسي واجتماعي يتجسد للناس كمشاركات انتفاعية ومزايا وحقوق وإصلاحات عامة خارجية في محيطهم.. ولأن الإصلاحات والمزايا العامة التي مصدرها الحكم، تُعزى ويروج لها على أنها أيادٍ وأمجادٍ للحكم أو لحزب أو لنظام، فإنه يخالطها في كل عصر ويداخلها قدر من الدعاية يقل أو يكثر.. وهذا التداخل بين الإصلاحات وبين الدعاية، صار يستوقف النظر في زماننا، ويدعو للتأمل، فقد صارت الإصلاحات ضربا من المزايا المادية التي ترضى رغبات أو أطماع أو غرور الجماهير، وكلها وجوه للزهو واللهو والإثارة.. صارت المساواة تعني الآن المساواة في الخدمات العامة والمرافق العامة مع بسطها إلى أوسع مدى، وغاب المعنى الروحي الإنساني للمساواة في خضم هذه الصوالح والمنافع المادية، ولم يعد للمساواة معناها الأول، وجار ذلك على المساواة في حق الحرية وحق المشاركة وغيرها من الحقوق المترتبة على هذا المعنى الأصيل للمساواة الذي أفل وابتعد وغاب !
يزداد فهمنا لفكرة المساواة في الإسلام، فيما يبدي محمد عبد الله محمد، إذا تصورنا الفارق بين «التميز» وبين «قصد التميز» واتجاه الرغبة إليه.. فالتميز واقع يقع عند توافر أسبابه وظروفه، ويستحيل منع وقوعه في حياة البشر، أما «قصد التميز» فقد يكون رغبة في ترقية الذات وتكميلها للانتقال بها من حال إلى أحسن وأفضل وأكمل.. وهذا لا بأس به، بل مطلوب ما دام يتخذ أسبابه الموضوعية بلا تكبر ولا استعلاء، لذلك يخرج «قصد التميز» عن هذا الإطار المقبول إذا كان ترفعاً وهربا من الشعور بالتساوي وإغراقاً في المغالاة في الشغف بإبراز التفوق والتميز والتعالي على الآخرين.. فهذه الرغبة تسلس إلى بلاء وتعطل الإحساس بالعبودية لله تعالى وحده، المستغنية عن تأليه الذات ومدائح الناس.. هذه العبودية هي من معالم التقريب، لأنها دعامة شعور المسلم بمساواته لإخوانه ومساواة الناس بعضهم لبعض.. وبحرية أصيلة متجهة إلى الله عز وجل.