
المسؤولية الجنائية عن الخرافات
مقال بقلم د. أشرف نجيب الدريني
لماذا لا يزال الإنسان، بعد كل تقدم العلم والعقل والقانون، يسلم مصيره لأوهام قديمة؟ لماذا يصدق أن الألم الجسدي قادر على كشف الحقيقة، وأن النار أو الحديد المحمّى على اللسان يمكن أن يفرّق بين البراءة والذنب؟ هل الضحية مسؤولة لأنها صدّقت، أم أنها تحت وطأة ضغط ثقافي واجتماعي جعلها خاضعة؟ ومن يتحمل المسؤولية الجنائية حين تُستغل الخرافة لإجبار الضحية على الاعتراف، أو للابتزاز، أو لإلحاق الضرر؟ هذه الأسئلة تكشف حجم الجرح الاجتماعي الذي تتركه الخرافات، وتستدعي منا التأمل في دور القانون والمجتمع والفرد في مواجهتها.
مثال البشعة، “جهاز كشف الكذب” – وضع الحديد المحمّى على لسان المتهم- يعكس خرافة اجتماعية بائدة قائمة على الاعتقاد بأن الألم الجسدي يكشف الحقيقة. هذه الممارسة، التي تفرض على الفرد أمام الآخرين، تُظهر كيف يمكن أن تُستغل التقاليد باسم السلطة الاجتماعية لإلحاق الضرر بالإنسان، وتبرز الفارق الواضح بين الخرافة والسحر، فالخرافة تمثل ممارسة اجتماعية ضارة، بينما السحر يعتمد على اعتقاد غيبي بوجود قوى خارقة تؤثر على حياة الإنسان، والفرق ضروري لتحديد المسؤولية القانونية والجنائية. فالدجل والخداع الواعي، والشعوذة التي تمزج بين الخرافة والسحر والدجل، كلها أدوات يستخدمها البعض لإيهام الناس بالتأثير على حياتهم، ويحاسب القانون كل من يلحق ضررًا مباشرًا بالآخرين سواء تحت مظلة الخرافة أو السحر أو الدجل أو الشعوذة.
تاريخيًا، شكلت الخرافات جزءًا من كل الحضارات، من محاكم التفتيش الأوروبية التي لجأت للتعذيب لاستخراج الاعترافات، إلى قبائل إفريقيا وآسيا التي مارست اختبارات بدائية للكشف عن “الذنب”، وصولًا إلى المجتمع المصري التقليدي الذي عرف البشعة كوسيلة لإثبات الصدق. في كل هذه الأمثلة، استُغل خوف الإنسان وجهله، وانتهكت حقوقه باسم العرف أو الدين أو السلطة، وتوضح لنا أن الخرافة ليست مجرد فكرة، بل ظاهرة اجتماعية متجذرة تتطلب مواجهة شاملة.
الضحية غالبًا غير مسؤولة جنائيًا، فهي تحت ضغط ثقافي واجتماعي مستمر منذ الطفولة، وخوفها من رفض الجماعة أو التعرض للعار يجعلها خاضعة، فتتبع الممارسة رغم إدراكها الضرر النفسي والجسدي. أما الشخص المتخصص بتطبيق البشعة، فهو يتحمل المسؤولية الجنائية المباشرة، لأنه ينفذ الضرر جسديًا أو نفسيًا، والنوايا أو الاعتقاد بفاعلية الممارسة لا تعفيه عن المسؤولية. كذلك المحرض الذي يدفع الآخرين لتطبيق البشعة أو يشاركهم في إكراه الضحية يتحمل المسؤولية القانونية كاملة عن التحريض والمشاركة المعنوية. الجاني المستفيد، الذي يستغل الخرافة لتحقيق مكاسب شخصية أو سلطة أو ابتزاز، يتحمل المسؤولية الجنائية كاملة عن كل أذى يلحق بالآخرين. المجتمع يتحمل جزءًا من المسؤولية لأنه يغرس الخوف ويعزز التقاليد على حساب العقل ويخلق بيئة خصبة لتكرار الممارسات. الإعلام مسؤول عن نشر الوعي أو تعزيز الجهل، والدين والتعليم مسؤولان عن بناء وعي نقدي يحمي الأفراد من الانقياد للجهل والخرافات.
مواجهة الخرافة تتطلب تكاملًا بين القانون والمجتمع والتعليم والإعلام والدين. القانون يفرض العقاب على كل من يلحق الضرر بالآخرين، ويضمن حماية الكرامة الإنسانية. التعليم يُنشئ أجيالًا قادرة على التفكير النقدي، والتمييز بين الحقيقة والوهم. الإعلام يوضح مخاطر الخرافة ويعزز الوعي المجتمعي، ويكشف التلاعب النفسي والاجتماعي. المجتمع نفسه يجب أن يكون بيئة آمنة للإنسان، لا تكرّس الخوف، بل تشجع على الحرية الفكرية، والوعي، واحترام الفرد. أما الدين، فيقدم سياجًا أخلاقيًا، يحذر من استغلال الآخرين باسم المعتقد ويؤكد على العقل والتمييز.
في النهاية، يصدق الإنسان الخرافة حين يُترك وحيدًا، والضحية غالبًا لا تختار، لكن المسؤولية الجنائية تقع على من يستغل الخرافة أو السحر أو الدجل أو الشعوذة، ومن يصمت عنها، ومن يروج للأسطورة إعلاميًا، ومن لا يطبق القانون بصرامة. الحقيقة لا تُكشف بالنار، البراءة لا تُعرف بالحديد، والكرامة الإنسانية لا تُقاس بالألم. وعندما يدرك المجتمع هذه الحقيقة، يمكن للجرح الاجتماعي الناتج عن الخرافات أن يلتئم، ويستعيد الإنسان حقه الطبيعي في العيش بحرية وعقلانية، بعيدًا عن الوهم والأسطورة، ويصبح القانون والفكر والتعليم والإعلام حائط صد قوي أمام أي محاولة للعودة إلى الظلام القديم. والله من وراء القصد.