المحامي الأشهر إبراهيم الهلباوي (4)
المحامي الأشهر إبراهيم الهلباوي (4)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 30/8/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
هكذا عشرة أشهر من كل عام دراسي، يقوم الهلباوي بكل هذا الجهد بأكثر من ثمانية عشر ساعة يوميًا عاكفًا على الدراسة وتحصيل العلم في كل باب، وكان أن أخذ بنصيحة الأفغاني أن يترك مطالعة كتب مذهب الإمام مالك إلى دراسة الإمام أبى حنيفة، فانتقل إلى مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان إمام مدرسة الرأي، وكان ذلك يتفق ـ فيما أبدى ـ مع الدرجة التي وصل إليها زملاؤه في كتب المعقول، أي النحو والمنطق، فطفق يحضر « شرح الدر » على الأستاذ الشيخ حسونة النواوي أشهر من قام بتدريسه.
ويذكر الهلباوي من محاسن الدراسة في الأزهر، وما زودته به، أن الحرية كانت مطلقة الحرية في دراسة المذاهب وكتب الأساتذة والعلماء، وأن تلك كانت أمثل الطرق لتكوين الإنسان وتنمية عقله وتوسيع ثقافته، وأنه قد اتضح له أن تلك هي طريقة الدراسة في أكبر جامعات أوروبا، وأنها الوسيلة للتكوين الحقيقي والتربية الاستقلالية، وأن ذلك زرع فيه وفي طلاب الأزهر بعامة تقليب الرأي على كل وجوهه، والمناقشة حتى مع أساتذتهم، وقدرهم مع الاقتناع بما يستقر لديهم ــ على الإقناع، والقدرة على الإقناع هي أولى المكنات التي يجب أن تكون في المحامي، حالة كون المحاماة، رسالة « إقناعية » لا غناء لها عن القدرة على الإقناع باعتبارها مادتها وهدفها وغايتها.
ولا يأنف الهلباوي بطبيعته التي اكتشفها الأستاذ العقاد، من أن يروى أن الشيخ النواوى ـ وكان فيما يقول حاد الطبع ـ عَدَّ مناقشته له واعتراضه على رأيه ـ خروجًا عن الأدب، فرماه بإحدى نعليه، وإذ سقطت أمام الهلباوي فقد أخذها وطرحها خلفه، فعدها الشيخ النواوى إمعانًا في سوء الأدب، وقال له محتدًّا: كيف ترمى النعل ؟ قال الهلباوي: إني رميته خلفي، فزاد غضب الشيخ النواوى وقال له مقرعًا: أتريد بقولك « خلفي » أنه كان من المحتمل أن تردها إلى الأمام، وصرخ في وجهه وقطع الدرس وصمم على طرده من حلقته.
وبدت طبيعته « الهجَّامة »، على تعبير الأستاذ العقاد، في احتكاكه وهو طالب بالشيخ محمد عبده الذي كان يشاع عنه من شانئيه أنه ملحد، وإذ كان الهلباوي في مسجد الحسين يومًا يحضر بعض الدروس، لمح فيما ـ يروى ـ الشيخ محمد عبده يصلى صلاة العصر، فأسرع إلى الشيخ محمد عليش وبلغه أن محمد عبده المعروف بالزندقة يصلى الآن بغير وضوء، وطلب من الشيخ أن يأذن له في إحضاره لتأديبه، وكان بجوار الشيخ عليش جمع من العلماء استثارتهم دعوته، فبعثوا معه نفرًا من الطلاب، فلحقوا بالشيخ محمد عبده قبل خروجه من الصلاة، وساقوه كرهًا إلى الشيخ عليش الذي اتهمه بالإلحاد، ولما استخف الشيخ محمد عبده بهذه التهمة ـــ سمح الشيخ عليش للمتهوسين من الطلبة الذين كانوا مع الهلباوي، بطرح الشيخ محمد عبده أرضًا ثم ضربوه وأخرجوه من المسجد.
ما كان لي أن أروى هذه الواقعة المؤسفة، إلاّ أن سردها من حق الأستاذ الإمام ممد عبده، وحق المصلحين بعامة، لبيان ما يلاقونه من الإعنات والجهالة والإيذاء !! فضلاً عن أن راويها المقر بها هو الهلباوي نفسه !!
الجدير بالذكر، أن الهلباوي على عكوفه على الدراسة الأزهرية طوال السنوات السبع التي أمضاها في الأزهر، كان حريصًا على الاتصال بجمال الدين الأفغاني الذي أخذ صيته يذيع رغم اتهام البعض له بالإلحاد، وأنه بدأ بالحضور والتلقي على الأستاذ الأفغاني في شرح كتاب الهداية في شرح الفلسفة، ويستغرق في ذلك الدرس نحو ساعتين، ويستأنف بعد صلاة المغرب درس المنطق في كتاب « المطالع »، بينما يحضر يومي الخميس والجمعة درسين في العلوم الرياضية من فلك وحساب ومبادئي الهندسة في القواعد الأربعة من وضع أرسطو.
أمضى الهلباوي ثلاث سنوات في التلقي عن الأفغاني، وأنه فضلاً عن استفادته العلمية منه، فإنه كان لدروسه الفضل في التعرف إلى كثيرين من كبار الشخصيات ــ أو من ذوات مصر على حد تعبيره في مذكراته، فعرف منهم لطيف باشا سليم نجل سليم باشا الحجازي أحد قادة الجيش المصري، وهو من مؤسسي الحزب الوطني ( القديم ) مع مصطفي كامل ومحمد فريد، وكان زعيم الثورة ضد نوبار باشا مع زميله سعيد بك أبو النصر، ومنهم أمين بك على الذي أصبح فيما بعد مستشارًا بمحكمة الاستئناف وأحد القضاة أعضاء المحكمة التي حكمت على « الوردانى » قاتل بطرس باشا غالى، وقد تتلمذ هؤلاء على الشيخ جمال الدين الأفغاني، وقد استمر الأفغاني في دروسه حتى جاءت حرب الدولة العلية في سنتى 1876، 1877، وظهرت بوادر هزيمة تركيا، فحزن الأفغاني وأبطل الدرس ولم يعد يتكلم في غير السياسة.
كان لابد أن أحدث القارئ بهذا الجانب الذي اجتهدت لإيجازه بقدر الإمكان، لأنه فيما أرى يمثل القاعدة اللغوية والأدبية والبيانية، وقواعد المنطق، التي انطلق منه الهلباوي محاميًا عظيمًا حتى صار الأشهر في عالم المحاماة.