المحامي الأشهر إبراهيم الهلباوي (3)
المحامي الأشهر إبراهيم الهلباوي (3)
نشر بجريدة الأهرام 23/8/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
لم يتخرج الهلباوي في كلية الحقوق، بل ولم يتم تعليمه بالأزهر، ولكنه كان صاحب لغة وأسلوب بالفطرة، وضعت الدراسة الأزهرية أساسه، ونمته الحياة وتتلمذه على جمال الدن الأفغاني. ودلت بواكيره على ذكاء لافت، تجلى معه أنه « صاحب حجة »، وهذه من أسس المحاماة بكل أنواعها وفي جميع العصور. فليس محاميًا، ولا يمكن أن يكون، إلاَّ صاحب علمٍ، وصاحب حجة، وصاحب قدرة على توليد المعاني، وعلى المساجلـة والمقارعة. وشف الهلباوي من شبابه على أنه صاحب حجة، ومناورة أيضًا !
كان الهلباوي ناقمًا على « مصطفي رياض باشا » وحزبه، فجعل يطلق فيه لسانه، ويكتب عنه ما لا يرضيه.
فأمر رياض باشا رئيس النظار ـ أمر عالمًا من علماء الدين بأن يستجوب الشيخ الشاب إبراهيم الهلباوي توطئة لعقابه. بدأ العالم المحقق كلامه بتهديد الهلباوي، قائلاً له: « إن ناظر النظار سيخرب بيتك إنْ لم تكف عن الحملة عليه ».
فوجئ العالم المحقق، بالشيخ الشاب يجيبه ضاحكًا « وساخرًا »: إنه لا يستطيع !
فسأله العالم المحقق مدهوشًا متعجبًا: « كيف لا يستطيع، وهو ناظر النظار، والحكومة كلها في يده ؟! »
قال الشيخ إبراهيم: « وليكن ناظر النظار، أو أكبر من ناظر النظار.. ليكن أمير البلاد.. ليكن خاقان البرين والبحرين، بل ليكن ــ وحاشاه ــ « الله » جل جلاله، فإنه لا يستطيع أن يخرب لى بيتًا، ففزع العالم المحقق، وخيل إليه أن المسألة تنتقل من التمرد والعصيان إلى الكفر بالله، والعياذ بالله !
فصاح بالشيخ الشاب حنقًا: « أهذا الذي تعلمتموه من جمال الدين ؟! »
وكانت تحيط بالأفغاني مظنة « الزندقة » عند بعض العلماء آنذاك، فطاب للعالم المحقق أن يجد في كلام التلميذ برهانًا على زندقة الأستاذ الأفغاني.
وكان الشيخ إبراهيم الهلباوي من تلاميذ جمال الدين، فلم يكن أسرع منه إلى رد التهمة إلى من يتهمه، وقال لصاحبنا: « بل هذا الذي تعلمناه منكم قبل أن نتعلمه من جمال الدين ! »
قال الرجل « أعلمناكم نحن الكفر ؟! »
قال الفتى المتحذلق: « بل علمتمونا أن قدرة الله لا تتعلق بالمستحيل.. وخراب بيتى مستحيل لسبب واحد، وهو أنه ليس لي بيت »
تشير هذه الواقعة للشيخ الشاب إلى أنه كان بالفطرة « صاحب حجة » و« مناورة » بل و« مقارعة »، وأنه فاجأ العالم المحقق حتى أسكته، بل وقد عُرف عن الهلباوي أنه رغم تلمذته للأفغاني، لم يكن يمتنع في الحلقة الدراسية عن الاستطالة عليه بمثل هذه الحذلقة، إذا حكمت القافية كما يقال.
روى الأستاذ العقاد أن عظيمًا من عظماء ذلك العصر الذين حضروا كثيرًا من تلك الأحاديث أو الدروس ـ وكانت كل أحاديث جمال الدين من قبيل الدروس: أن السيد كان يتكلم يومًا عن بعض الرذائل التي تصيب الجسد والنفس الناطقة، وبعض الرذائل التي تصيب الجسد ولا تمس النفس..
فقاطعه الهلباوي قائلاً: « يا خبر ! وهل السيد من هؤلاء ؟ »
فانتفض الأفغاني مغضبًا وصاح به: « أُغرب عنى أيها الخبيث.. لعنة الله عليك ! »
والهلباوي الذي تدل عليه هاتان النادرتان هو الهلباوي الذي عرفه الناس طوال حياته، ويمكنك أن تلخصه في عبارة واحدة، وهى أنه رحمه الله كان « ذلاقة لسان لا تطيق نفسها ولا تريح صاحبها » !! ومن هذه الذلاقة المتعجلة، كان يؤخذ على الهلباوي كل ما هو مأخوذ عليه.
على أن انقطاع الهلباوي عن الدراسة بالأزهر بعد سبع سنوات أمضاها في الدراسة به، لا يعنى أنه كان خالي الوفاض مما درسه على مدى تلك السنوات السبع.. فزاده في الواقع مستمد منها، ويروى في مذكراته أنه التحق بالأزهر عام 1871 م /1287 هـ ولبث فيه سبع سنين، وأنه سكن في غرفة واحدة مع زملائه الذين بلغ عددهم سبعة في بعض الأحيان، وأنه بدأ درسه الأول على مذهب الإمام مالك، على الشيخ رزق البرقاني، وتلقى في العام التالي على الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي الذي تولى مشيخة الأزهر عام 1917 م /1335 هـ، وحضر دروسًا للشيوخ عبد الرحمن المحلاوي ومحمد البحيري والإمبابي وأبى النجار، في النحو والمنطق وعلوم البلاغة، ويرى الهلباوي أن دراسة الأزهر في ذلك الوقت كانت أحسن الدراسات المتاحة وأنفعها على الإطلاق !
ويضيف الهلباوي أن الأفغاني الذي اتجه إليه يتلقى منه وامتلأ إعجابًا به وتقديرًا له، هو الذي حثه على المواظبة على دراسته بالأزهر، فتلقى الفلسفة والمنطق والبلاغة والرياضة، وحملته هذه الدراسة على أن يقضى في القراءة والدرس أكثر من ثمانية عشر ساعة يوميًّا. وفي الوقت الذي درس فيه الحديث بكتّاب الجامع الصغير للشيخ حسن العدوى، وواظب على حضور الفقه والنحو والمنطق على كبار العلماء، وطفق يتلقى عن الأفغاني نفسه شرحه لكتاب الهداية في شرح الفلسفة، ودروسًا في المنطق في كتاب « المطالع »، فضلاً عن درسين يومي الخميس والجمعة في العلوم والرياضة من فلك وحساب ومبادئ الهندسة في القواعد الأربعة من وضع أرسطو.