المحامى الأشهر إبراهيم الهلباوى (الأخيرة )
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 25/10/2021
ـــ
بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية نقيب المحامين
دفع الهلباوى ثمن وقوفه فى صف الحركة الوطنية , وثمن الخصومات التى تشكلت من خصوم من دافع عنهم !
كان رحمه الله يترافع فى كل القضايا الوطنية حتى تلك التى كان المتهمون فيها من أحزاب سياسية ، يختلف واياها بل ويحاربها حزبيًا ، وتنزل بالمحامى العظيم , الذى كان عضوًا بلجنة وضع دستور 1923 , ومن مؤسسى الجمعية الخيرية الإسلامية وعضوًا فى مجلس إداراتها مع محمد عبده وسعد زغلول ــ تنزل به فيما بين سنة 1924 وسنة 1925 أزمة اقتصادية عنيفة سكت وسكت المؤرخون عن بيان أسبابها , إستدان بسببها مئات الألوف من الجنيهات , ولا يبقى من بضعة آلاف الأفدنة التى كان يمتلكها فدان واحد , ولا من سراياه فى جاردن سيتى حجر واحد .. وقد رسا مزاد هذه الآلاف على الدائنين ,ورسا مزاد السراى على الخاصة الملكية التى قيل إنها هى التى دبرت لذلك , أراد سعد زغلول ــ وهو خصمه السياسى ــ قبل رسو مزاد السراى أن يحفظ للأسد ، عرين الأسد ، بشراء الدار له , فأوفد إليه فتح الله باشا بركات يرجوه أن يقبل تدخله فى المزاد فشكر لسعد ، ولفتح الله بركات , وأصر على ألا يفعلا فلم يفعلا ! ويقف فخر المحاماة ذات مرة أمام المحكمة مترافعًا عن نفسه فى قضية تخص بيته ، الذى يراد نزع ملكيته منه , فيقول هذا النابغة الذى صال وجال فى ساحات المحكمة ، والدموع تملأ مآقى المحكمة إشفاقًا : انه جاء إلى المحكمة لأنه يعرف أنه اذا انهزم فى كل مكان فقد تعود النصر فى المحكمة ، وأنه إذا لم يبق له دار فإنه باق فى دار العدالة التى ساهم فيها أكثر مما ساهم أى إنسان : لا يلتمس أن يسكن ولا يلتمس أن يرحم ولكنه يطلب العدل من دار العدل .
أبت نفسه أن يقبل إحسان الغير , واحتمل محنته فى رجولة وكرامة , وقد كان بطبيعته شجاعًا مقتحمًا, وعنه كتب الأستاذ العقاد أنه الوحيد الذى أقدم منهم على الخروج من الحصار الذى فرض عليهم بدار الصحيفة , مقتحمًا الجموع المحيطة بالدار , لا يبالى باللكمات والضربات التى توجه إليه , حتى خرج من الحصار ـ فى شجاعة تعجب لها جميع المحاصرين بما فيهم الأستاذ العقاد .
ونحن نعرف أن الهلباوى عاش خمسة عشر عامًا بعد هذه المحنة , حيث وافته المنية فى عام 1940 , ولم يؤخذ عليه طوال تلك السنوات تخاذلاً أو استكانة أو ضعفًا أو التماسًا من أحد , بل ظل الرجل واقفًا يقاتل ويعمل , والمحاماة هى ميدانه الذى نبغ فيه , وإذا به يبنى من جديد , طوبة وراء طوبة , أبيَّا محتفظ بكرامته , فسطر بموقفه وصموده وصبره وعزمه صفحة وضاءة تحسب له .
لم تكن المحاماة هى كل نشاط أو عطاء إبراهيم الهلباوى , فقد كان عضوًا مؤثرًا فى لجنة الثلاثين التى كُلفت بوضع الدستور الذى عُرف بدستور 1923 , والذى أجمع الفقهاء على أنه كان إنجازًا وطنيًا رائعًا , وجمع فأوعى , وقد أسلفنا أنه من المؤسسين للجمعية الخيرية الإسلامية , لنشر التعليم , وإعانة المنكوبين , وقد قُيض له أن يتولى إدارتها فى العقد الأخير من حياته , وهى لا تزال قائمة إلى الآن تؤدى رسالتها فى نشاط وإخلاص .
ومن إصلاح التعليم , إلى مواقف مشرفة فى مجلس النواب , حيث تجلى حرصه على الإصلاح فى شتى المجالات , فيطالب بالإسراع فى إصدار قانون التعاون والنقابات , وبأن تكون هناك نقابة صناعية تتكفل برعاية وعرض المصنوعات الوطنية , ويعارض زيادة جباية العوائد من أهالى القاهرة , وهاجم وأدان مؤتمر الخلافة الذى لا يعود بأى فائدة على الدين أو الوطن , ولم يتحسب مما يغضب الملك فؤاد حيث هاجم سياسة مصلحة الصحة التى كان يترأسها الدكتور محمد شاهين الطبيب الخاص للملك , ودافع عن حرية الصحافة , وهاجم سياسية صدقى الساعية إلى تقييدها , وحين تنحى رئيس محكمة جنايات مصر عن نظر قضية القنابل عام 1932 لوجود محاولات تأثير خارجى مستترة , أثنى الهلباوى على موقفه مؤكدًا أن المحاماة تشاركه الثقة بجميع القضاة .
ويحفظ له التاريخ أنه سعى لإصلاح التعليم , وتعديل قانون مجلس شورى القوانين وقوانين مجالس المديريات , وقدم مقترحًا بذلك إلى المجلس ونصه : يطالب المجلس الحكومة بإعداد قانون يخول الأمة حق الاشتراك الفعلى مع الحكومة فى إدارة شئون البلاد الداخلية وفى القيام بالشئون المحلية بحيث يكون قرار الأمة نافذ المفعول فى الشرائع والقوانين التى تسرى على الوطنيين ، وبالفعل انعقد المجلس فى ديسمبر ووافق بالإجماع مما كان مدعاة لإثارة حفيظة السير الدون جورست السكرتير المالى ، فراح يحمل على المجلس فى تقريره السنوى ويصفه بالانحراف .
ومن الإنصاف أن أختم حديثى هذا عنه , بأنه كان أسطورة المحاماة , الذائع صيته فى كل مصر , وأول نقيب للمحامين , وتجلى نبوغه وجده من بواكير حياته , ونفعته موهبته الهائلة التى غطت كل شئ , وبلاغته الأسطورية , وفروسيته وما إكتسبه من معارف ضخمة من منازلة الرجال , واحتمال الشدائد , مع صبره ودأبه وقوة عزيمته وتصميمه , فظلت شمسه مشرقة طوال حياته , وحفر لنفسه مكانًا عليًّا فى صفحة الخالدين فى عالم المحاماة .