المحاماة من تاني !

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 8/6/2020

بقلم : أ/ رجائي عطية

 

حين استمسك المحامون بالأدب ، أدب الخلق والتصرف والسلوك ، وأدب الكلمة والمعرفة ، تبوأوا مكانة مرموقة في كثير من المجتمعات .

كنت مهمومًا في « كتاب رسالة المحاماة » باستقصاء ما تبوأه المحامون في الحياة الوطنية والسياسية ، والفكرية والأدبية والثقافية ، في مصر والعالم . قصدت أن استرعى عناية المحامين ، والشباب على الأخص ، إلى ما كانت عليه المحاماة قبل أن تطبق عليها الأزمة التي تفرقت مسئوليتها بين القبائل !

ذكرت فيما ذكرت في رسالة المحاماة ، عن الحضور الوطني والعالمي للمحاماة والمحامين ، أن المطالع لمدونات التاريـخ ومؤلفاته ، يلاحظ ظاهـرة جليـة لا تخطئها عين .. ظاهرة حضور المحاماة والمحامين والحقوقيين بعامة ، فى مقدمة المد الوطني ، وفى مضمار السياسة والحكم ، وفى زعامات الأحزاب وعضوية ورئاسة الوزارات ، ورئاسة وعضوية مجلسي النواب والشيوخ ، ومن بعدهما مجلسي الشعب والشورى ، وفى ريادة الفكر والأدب والثقافـة والصحافـة .. يجد منهم « الزعيم » ، و « الرئيس » ، و « الوزير » ، وزعماء الحركة الوطنية ، ورؤساء الوزارات والمجالس النيابية والأحزاب ، ونجوم الفكر والأدب والثقافة ، ورؤساء تحرير الصحف والدور الصحفية .. ذلك واقـع حاصل فى مصر وفى العالم العربـي ، وفى أوربا والهند ، وفى أمريكا .. فـى إحصائية أوردها دونالد . إم . ريد ــ الباحث الأمريكي والأستاذ الجامعـي صاحب كتاب : « المحامون والسياسة في العالم العربي» .. تقول الإحصائية إنه قد تولى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 1960 ـــ 25 رئيسا من المحامين والحقوقيين من بين 39 رئيسًا .. يضاف إليهم الرئيس ريتشارد نيكسون المحامي الذى ترأس الولايات المتحدة في السبعينيات بعد تاريخ هذه الإحصائية ، والرئيس الأمريكي لدورتين متتاليتين المحامي بيل كلينتون .. بزوغ نجم المحاماة والمحامين فى أوربا ظاهرة لافتة ، بدءًا من الحركات الاجتماعية ، ومرورًا بالثورات ، ثم بمناصب الوزارة ومراكز الإصلاح .. كان المحامى روبسبير أحد ألمع وأبرز زعماء الثورة الفرنسية ( 1789م ) ، وكذلك كان المحامي لينين الثائر وزعيم الثورة البلشفية الذى غير وجه التاريخ في روسيا القيصرية ، بينما كان المحامي ألكسندر كيرنكلسى مصلحاً اجتماعياً صاحب نظـرية خاصة فـي الإصلاح .. من بين المحامين والحقوقيين في أوروبا برزت نجوم لامعة في الحرية والوطنية والسياسة والإبداع الفكري والأدبي والاجتماعي والاقتصادي .. منهم كالفين ، وفرنسيس بيكون ، وميكيافيللى ، وكورنياى ، وليبنتيز ، ومونتسكيو ، وفولتير ، وديدروت ، وهوم ، وبنتام وغيرهم .. بينما تطالعنا في الهند صورة المحامي غاندي الذى صار اسمه أسطورة للمقاومة السلمية ، واستطاع بها أن يقود حركة إحياء عمت الهند ، وأن يقض مضاجع الاحتلال الإنجليزي في شبه القارة الهندية والزعيم الكوبي الكبير فيديل كاسترو الذى عمل بالمحاماة قبل أن يترأس كوبا ويقض مضاجع الولايات المتحدة .

في العالم العربي المعاصر تطالعك من المحامين والحقوقيين صورة « الملك » الحسن الثاني ــ صاحب الاتجاه المحافظ ، وصورة الليبرالي الوطني التونسي الحبيب بورقيبة ، وفارس الخورى الرئيس السوري ، ومن الاتجاه الاشتراكي ـ مع الفـارق : كمال جنبلاط فـي لبنان ، وصدام حسين التكريتى الذى حكم العراق أمداً حتى انتهى حكمه بالنهاية المأساوية التي صاحبت الغزو الأمريكي البريطاني للعراق وانتهت بإعدامه في مشهد مثير أول أيام عيد الأضحى !!

من الشام ، برزت أسماء أخرى عديدة .. أمين الجميل مؤسس جريدة « الحقوق » ، وهو شقيق اليسارى المعروف شبلــى جميل .. ويوسـف عسـاف محرر جريدة « المحاكم » ثم جريدة « الشريعة » التى ظهرت 1893/1894 بمبادرة من المحامى والحقوقى المصرى أحمد لطفى السيد ( أستاذ الجيل ) ، وإسماعيل صدقى الذى شغل منصب الوزارة كثيرا وتولى رئاسة الوزارة المصرية عدة مرات . ومن الرعيل الأول نيقولا توما الذى توفى سنة 1905 ، وأحد معاصرى سعد زغلول والهلباوى فى مصر .. وكان مع أمين الجميل ممثلا للأنماط المهنية للمسيحيين السوريين ، وانضم للتيار المتدفق إلى مصر من الشام ، وصار واحدًا من صفوة المحامين فى زمانه .. بالتوازى معه شارل داباس واسكندر عامول من لبنان ، وجميل مرادم من سوريا ، وعونى عبد الهادى من فلسطين ، وتوفيق السويدى من العراق .

زعماء مصر ورجالاتها الكبار ، فى العصر الحديث ، كانوا جميعًا ــ قبل 1952 ــ من المحامين والحقوقيين .. مصطفى كامل ، ومحمد فريد ، وسعد زغلول ، ومصطفى النحاس ، وأحمد ماهر وعلى ماهر ، ومحمد حسين هيكل ، ومكرم عبيد وغيرهم .. عقد المحامين العظام الذين شغلوا الحياة الوطنية والفكرية والأدبية في مصر عقد فريد وعظيم … بدءًا من الزعيم الخالد مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية ، ومؤسس وزعيم الحزب الوطني القديم ، والذى اختار دراسة « الحقوق » بالذات وانخرط في « المحاماة » خصيصا ليؤهل نفسه للدور الرائع الذى أداه في خدمة القضية الوطنية حتى وافته المنية وهو في منتصف العقد الرابع من عمره .. تتابعت معه ومن بعده نماذج رائعة في الحركة الوطنية وما يغذيها من سياسة واقتصاد وإدارة وفكر وأدب وصحافة .. محمد بك فريد ثاني زعيم للحزب الوطني القديم ، ضاقت قيود الوظيفة بالنيابة عن تطلعاته لخدمة القضية الوطنية ، فتركها إلى رحاب المحاماة .. سعد زغلول زعيم الأمة ، الوزير ، ورئيس الوزراء ومجلس النواب ، وعبد العزيز فهمى قطب الوفد وثورة 1919 ، ثم رئيس حزب الأحرار الدستوريين ، ووزير الحقانية الذى استقال احتجاجًا على موقف الحكومة من كتاب الشيخ على عبد الرازق : « الإسلام وأصول الحكم » ، وأحد كواكب مجمـع اللغـة العربية ، وأول رئيس مصري لمحكمـة النقض المصرية ( 1931 ) .

ويبدو لي أنه لم يكن صدفة في حياة « محمد نجيب » أول رئيس لجمهورية مصر ، أنه قد درس الحقوق إلى جوار دراسته العسكرية ، وحصل على اجازتها عام 1924 ، ثم على دبلوم منها في القانون العام ، ولم يكن صدفة أن كثيرين من وزراء الخارجية المصريين كانوا من الحقوقيين ، ولا أن أول سكرتير مصري عربي للأمم المتحدة وأعنى به الدكتور بطرس غالى ، كان من خريجي الحقوق .

ما أتمناه وأسعى إليه، أن نتقدم إلى المحاماة التي عشقناها !

زر الذهاب إلى الأعلى