المحاماة في الدستور

بقلم الدكتور: أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

«المحاماة في أصلها وجوهر قواعدها مهنة حرة، يمارسها المحامون على استقلال، لا سلطان عليهم في ذلك إلا لضمائرهم وحكم القانون، وهم بذلك شركاء للسلطة القضائية يعينونها على توكيد سيادة القانون والدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم، ويعملون معها من أجل تحقيق العدالة كغاية نهائية لكل تنظيم قانوني يقوم على إرساء الحق وإنفاذه، وهي باعتبارها كذلك باعتبارها كذلك تتمخض جهداً عقلياً يتوخى ربطاً عملياً بين القانون في صورته النظرية المجردة، وبين تطبيقاته العملية، ليقدم المحامون خدماتهم لموكليهم – في إطار من الإبداع والتأسيس – بما يكفل فعاليتها». هذه العبارات ليست منسوبة إلي، وإنما هي عبارات للمحكمة الدستورية العليا المصرية في حكمها الصادر بتاريخ الثامن عشر من مايو 1996م، في القضية رقم 38 لسنة 17 قضائية دستورية.

ويصف أحد كبار القضاة الفرنسيين في القرن السابع عشر مهنة المحاماة، قائلاً: «إن صناعة المحاماة هي قديمة كالقضاء وشريفة كالفضيلة ولازمة كالعدالة ولا يوجد مهنة أكثر منها جمالاً ولا أحق منها بالانشغاف. فهي المهنة التي يمكن أن تجعل صاحبها نبيلاً ولو كان من أصل وضيع، وأن تجعله غنياً جون وفرة المال والسحت، وأن تجعله كبيراً دون الجاه الفارغ وسعيداً دون الثروة المادية. ففي هذه الصناعة يلتقي النبوغ والتفوق والجاه مع الثروة الأدبية وأيضاً المادية».

وفي عهد الإمبراطورية الرومانية، كان الأشراف في روما بصفتهم حماة الشعب هم أول من قاموا بالدفاع عن موكليهم. وفي نهاية عهد الإمبراطورية، كانت مهنة المحاماة موضع تقدير كبير وجاء في الدستور أن المحامين «ينيرون سبيل العدالة، ويعيدون الحقوق المهضومة إلى ذويها بطول باعهم وقوة دفاعهم في الدعاوى الجنائية والمدنية، وأنهم ليسوا بأدنى نفعاً للإنسانية من أولئك الذين ينقذون أوطانهم».

ومهنة هكذا شأنها، يبدو من الطبيعي أن يحرص المشرع الدستوري المصري على تكريس نص لها في صلب الدستور ذاته. إذ تنص المادة 181 من الدستور المصري الملغي لسنة 2012م على أن «المحاماة مهنة حرة، وهي ركن من أركان العدالة، يمارسها المحامي في استقلال، ويتمتع أثناء مباشرة عمله بالضمانات التي تكفل حمايته وتمكينه من مباشرة هذا العمل؛ وذلك على النحو الذي ينظمه القانون». وبدورها، تنص المادة الثامنة والتسعون من الدستور المصري لعام 2014م على أن «حق الدفاع أصالة أو بالوكالة مكفول. واستقلال المحاماة وحماية حقوقها ضمان لكفالة حق الدفاع. ويضمن القانون لغير القادرين ماليًا وسائل الالتجاء إلى القضاء، والدفاع عن حقوقهم». وكرس الدستور المصري الفصل السادس من الباب الخامس للمحاماة، حيث تنص المادة الثامنة والتسعون بعد المائة من الدستور على أن «المحاماة مهنة حرة، تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة، وسيادة القانون، وكفالة حق الدفاع، ويمارسها المحامي مستقلاً، وكذلك محامو الهيئات وشركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام. ويتمتع المحامون جميعاً أثناء تأديتهم حق الدفاع أمام المحاكم بالضمانات والحماية التي تقررت لهم في القانون مع سريانها عليهم أمام جهات التحقيق والاستدلال. ويحظر في غير حالات التلبس القبض على المحامي أو احتجازه اثناء مباشرته حق الدفاع، وذلك كله على النحو الذي يحدده القانون». ومما تجدر ملاحظته هنا هو أن المشرع الدستوري المصري استخدم تعبير «تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة»، ولم يستخدم عبارة «تساهم مع السلطة القضائية في تحقيق العدالة». وفي اعتقادي أن «المشاركة» أعلى شأناً من «المساهمة». فالإسهام قد يكون صغيراً وقد يكون كبيراً، والمساهمة قد تكون أصلية وقد تكون تبعية، وقد تكون مباشرة وقد تكون غير مباشرة. أما المشاركة، فالأصل فيها أن تكون على قدم المساواة، ما لم يرد ما يدل على خلاف ذلك.

وفي ذات الإطار، ينص الفصل 105 من الدستور التونسي لعام 2014م على أن «المحاماة مهنة حرة مستقلة تشارك في إقامة العدل والدفاع عن الحقوق والحريات. يتمتع المحامي بالضمانات القانونية التي تكفل حمايته وتمكنه من تأدية مهامه».

وبدورها، تنص المادة 170 من الدستور الجزائري لعام 1996م، معدلة بموجب التعديل الدستوري المؤرخ في 6 مارس 2016م، على أن «يستفيد المحامي من الضمانات القانونية التي تكفل له الحماية من كل أشكال الضغوط وتمكنه من ممارسة مهنته بكل حرية في إطار القانون».

وضمن مواد الفصل الرابع، المعنون «السلطة القضائية»، تنص المادة 104 من دستور مملكة البحرين لعام 2002م على أن «أ- شرف القضاء، ونزاهة القضاة وعدلهم، أساس الحكم وضمان للحقوق والحريات. ب- لا سلطان لأية جهة على القاضي في قضائه، ولا يجوز بحال التدخل في سير العدالة، ويكفل القانون استقلال القضاء، ويبين ضمانات القضاة والأحكام الخاصة بهم. ج- يضع القانون الأحكام الخاصة بالنيابة العامة، وبمهام الإفتاء القانوني، وإعداد التشريعات، وتمثيل الدولة أمام القضاء، وبالعاملين في هذه الشئون. د- ينظم القانون أحكام المحاماة». ولعل ما يسترعي الانتباه هنا هو أن النص على المحاماة ورد في ذات الفصل المعنون «السلطة القضائية». بل إن المادة الرابعة بعد المائة من الدستور قد جمعت بين هذه المهنة وبين كل القضاء والنيابة العامة.

وتنص المادة الخامسة والستون من النظام الأساسي للدولة في سلطنة عمان الصادر بالمرسوم السلطاني رقم (101/ 96) على أن «ينظم القانون مهنة المحاماة».

ورغم أن الدساتير العربية الأخرى لم يرد فيها النص على مهنة المحاماة بذاتها، اكتفاء بالنص على حقوق المتهمين في الدفاع وحق الأفراد في التقاضي، فإن ذلك كاف لإسباغ الصبغة الدستورية على مهنة المحاماة. فعلى سبيل المثال، ووفقاً للمادة الثامنة والعشرين من دستور الإمارات العربية المتحدة، «العقوبة شخصية، والمتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية وعادلة، وللمتهم الحق في أن يوكل من يملك القدرة للدفاع عنه أثناء المحاكمة. ويبين القانون الأحوال التي يتعين فيها حضور محام عن المتهم…». فهذا النص يكفل للمتهم الحق في أن يوكل من يملك القدرة للدفاع عنه أثناء المحاكمة. والقدرة للدفاع عن المتهم «تتمخض جهداً عقلياً يتوخى ربطاً علمياً بين القانون في صورته النظرية المجردة وبين تطبيقاته العملية، ليقدم المحامون خدماتهم لموكليهم، في إطار من الإبداع والتأسيس بما يكفل فعالياتها» (حكم المحكمة الدستورية العليا المصرية، 18 مايو 1996م، القضية رقم 38 لسنة 17 قضائية دستورية، مجموعة الأحكام، الجزء السابع، ص 637). ولما كانت القاعدة التفسيرية تقول إن «الوسائل تأخذ حكم المسائل»، وحيث إن المحاماة هي الوسيلة التي تكفل ممارسة حق الدفاع، لا مناص إذن من القول بأن المحاماة لها قيمة دستورية. هذه هي المحاماة، وهذا هو قدرها، ويحق إذن لكل محام أن يفخر بالانتساب إلى هذه المهنة السامية. والله من وراء القصد…

زر الذهاب إلى الأعلى