المحاماة اللغوية (2)

بقلم: الأستاذ/ مازن عبد القادر السباعي

المحامي

مُحَكم فى مركز التسوية و التحكيم الرياضي المصري

من المستقر عليه فى محكمة العدل الأوروبية و بعض المؤسسات  الدولية الشهيرة  ذات الاهتمام  بمجال المحاماة اللغوية، أن المحامي اللُغوي يجب أن يتصف بالمعارف الآتية:

أولًا: أن يكون من ذووى الخلفية القانونية

و عليه لابد و أن يكون من الحاصلين على إجازة القانون، و من المشتغلين بمهنة المحاماة، أو العاملين فى السلك  الأكاديمي القانوني.

ثانيًا: أن يكون “لُغوي” و معنى اللغوي هنا لا يقتصر على إجادته للغة التى يتعامل معها من حيث قواعد النحو و الصرف فحسب، بل يتجاوز ذلك بإحاطته بأساسات علم الترجمة العامة، و علم تركيبة الجملة، و التحليل اللغوي، و علم المعاني، و غيرها من العلوم التى يحيط بها أهل كليات الألسن و اللغة و الترجمة.

 

فدور المحامي اللُغوي يتجاوز دور المحامي  غير اللغوي الذى يتعامل باللغة الرسمية لدولته فحسب، لذلك أصبح من شروط التحاق المحامي اللغوي بالعديد من المؤسسات الدولية و الاقليمية و الوطنية  المعنية بهذا المجال الحديث، أن يجيد المحامي اللغوي  أكثر من لغة، و على رأسها اللغة الانجليزية كأكثر اللغات استخداما فى المؤسسات الدولية، و  كذلك أن يتقنها من حيث القواعد العامة و القواعد المتخصصة التى يدرسها أهل الترجمة.

كما يجب عليه أن يحيط باللغة القانونية  الأجنبية، من حيث المصدر و النشأة، و الدلالة و الأثر المتولد عنها، و التى تميزه عن غيره من المترجمين القانونيين من أبناء كلية الحقوق، أو من الذين لم يحصلوا على إجازة القانون أو  لم يعملوا به، و ذلك  لقدرته على التوقف على  المصطلح فى الوثائق القانونية المتنوعة، و  المخاطب بها  رجال القانون ، و كذلك  قدرته على الوصول إلى ملكة  و حس تقريب المعني لأهل القانون، دون أن يتوقف على المعنى الظاهر أو الترجمة الحرفية.

فالمحامي اللُغوي يُدركُ جيدًا أنه يتعامل مع مصطلحات قانونية يترتب عليها أثر قانوني. و أن  هذا الأثر يجب أن يضعه المحامي اللغوي فى عين الاعتبار  عند تعامله مع أى وثائق قانونية  أجنبية،  و ذلك لما سوف يترتب عليه من نتائح تمس حقوق و التزامات الأطراف.

و من هنا برزت أهمية المحاماة اللغوية،  لإن المحامي اللغوي تتجاوز مهامه فى الخارج مهام المترجم القانوني. فهو يقوم بدور المترجم، و المراجع، و الصائغ، و الباحث عن أثر الوثيقة القانونية، و مدى تأثيرها على الأطراف المخاطبين بها،و مدى كفايتها  من حيث جميع ما سبق فى  حماية  مصالح الأطراف التى يعمل من أجلها.

 

و لنضرب مثالًا عمليًا على جانب واحد من مهام المحامي اللُغوي بناء على ما سبق:

وقفت منذ بضعة سنوات على هذا النص الإنجليزى فى فقه قوانين  المملكة المتحدة:

The County Courts deals exclusively with civil cases. The full jurisdiction of the County Court is generally presided over the circuit judges or Recorders (part-time judges).)

 

(( تختص المحكمة  الجزئية حصريًا بنظر القضايا المدنية. و يتولى الاختصاص القضائي الكامل لتلك المحكمة كلًا من: Circuit judges- Recorders)).

توقفت هنا على  كيفية ترجمة كلمتي :Circuit judges- Recorders فى السياق المذكور.

 

و قد بحثت فى القواميس الأجنبية فوجدت عدم اتفاق كامل على المصطلح الأول:

 

ففى  قاموس Macmillan

تم تعريف  المصطلح كالآتى:

1-Circuit judge: a judge who visits a number of courts of law in an area regularly in order to deal with local cases.

و ترجمتى  كانت:  هو القاضى الذى يزور عدد من المحاكم  بشكل منتظم فى منطقة(دائرة) ما للتعامل مع القضايا الداخلية فى تلك المنطقة.

و حين بحثت عن نفس المصطلح فى قاموس كامبريدج، وجدته:

2-Circuit Judge: A judge who decides cases that are brought to a circuit court.

و هو “القاضى الذى يفصل فى الدعاوى التى ترفع أمام محكمة ….Circuit court

يا للهول!  أيوجد أيضًا !Circuit Court

فازداد الأمر صعوبة، و وجب  علي كمحامي لُغوي إعادة البحث  مرة أخرى عن المصطلح الأخير حتى أصل للمعنى الذى أردت الوصول له فى أول مرة و هو  معنى: Circuit Judge

 

فزدت من شحذ همتي،  بقدر شغفى و حبى لهذا المحال، لأستزيد من  البحث، فذهبت لبعض مواقع  المترجمين المحترفين مثل موقعي:Proz-Translegal  فوجدت ترجمة  Circuit court بينهم مختلفة أيضًا حسب فهم كل مترجم لما وصل له من معني حسب السياق.

فمنهم من قال أنها: ” محكمة الاستئناف

و آخر وصل أن ترجمتها هى: محكمة متنقلة

و ثالث ذهب أنها: “محكمة دورية”!

يا للهول!  يبدو أنى سأستغرق مزيدًا من الوقت من أجل ترجمة مصطلح واحد فقط!

 

و قد وجدت نفسى تسأل السؤال الآتى:

فإذا سلمنا أن   Circuit Court هى محكمة استئناف،، فسنكون أمام تعارض للنص الأصلى:

The County Courts deals exclusively with civil cases. The full jurisdiction of the County Court is generally presided over the circuit judges or Recorders (part-time judges)).

” تختص المحكمة  الجزئية حصريًا بنظر القضايا المدنية….”

فإذا كانت هى محكمة الاستئناف، لكان من الأولى أن نستبدل County court  ب  Appellate Courtلأنها المحكمة المختصة التى يمكن أن تجد فيها مستشار أو قاضى استئناف، فكيف يمكن أن أبدى رأيه بشأن درجة قاضى دون أن أحيط بقانون المرافعات الانجليزي احاطة كاملة!

لذلك إذا  أردت أن أكون أمينًا على النص، للزم علي أن استمر فى البحث كى لا أقف  على  معني محدد، فلعل التحديد يضرب المعني عرض الحائط، إذا تبين عكسه وفق قانون المرافعات المدنية و التجارية فى انجلترا و ويلز، و إن أردت  أن  أصل لمعنى محدد  و أقول قاضى استئناف،، لقضيت شهورًا كى أصل لترجمة كلمة واحدة، فالتحديد هنا سيكون ظني و ليس يقيني!

و ما زاد  من حيرتى  فى هذا الأمر،هو عدم وجود معنى موحد لكلمة Circuit Judge  أيضًا:

فوجدته فى قاموس Babylon  بمعانى مختلفة:

 

1-Circuit judge may refer to jurisdictions.

يشير  للاختصاص القضائي

2-Circuit judge, a judge who sits on any of the United States courts of appeals, known as circuit courts.

يُطلق على كل  قاضي   يجلس على منصة القضاء فى محكمة الاستئناف فى الولايات المتحدة  الأمريكية

3-Circuit judge (England and Wales), a type of judge in the United Kingdom.

“هو تصنيف نوعي لمسمى قضائي بشأن أحد القضاة  فى المملكة المتحدة.”

إذاً القضاء الأمريكي حدد المعنى وفقًا للقاموس، فلما تُعقد أنت الأمور؟!

… و لكن أنا أبحث عن القانوني الانجليزي و ليس الأمريكي!

و ما ذهب إليه القاموس فى معنى المصطلح،، لم يحسم و يُحِدد المعني بأنه  هو قاضى كلي، أو مستشار فى محكمة الاستئناف، كما يمكن أن نعرف فى لغة المحامين الدارجة فى مصر.

فعدت أسأل نفسى من جديد: إذا ربما كان هناك معنى آخر أقرب للمعنى الذى أبحث عنه، يطابق المعنى الفقهي دون أن يخل به،  أو يستظل فى ظلاله دون أن يخالفه، و دون أن يضعه فى مسمى معين قد يكون غير صحيحًا.

و التحدى هنا بات أصعب من كل ما سبق ، فكيف يمكن أن يلمس هذا المصطلح  ثقافة و خلفية رجال القانون الذين نخاطبهم عبر بما يتوافق مع النص الأجنبي دون أن يحدد لهم معني لم يُحسم من حيث المعني القاموسي، أو من خلال التنقيب عنه فى أكواد القانون و الفقه الانجليزي.

فهذا هو مكمن صعوبة المحاماة اللغوية، إذ ما يميز محامي لغوي عن آخر، هو  قدرته البحثية و سعة معارفه بشأن القوانين المقارنة.

 

و هنا قررت أنه لابد و أن أحسم المعني القاموسي قبل أن أحاول معرفة بعض ما يدور حول المصطلح من الناحية الفقهية، فذهبت إلى القواميس العربية (غير القانونية) بعد أن انتهيت عن البحث عن المعني  للمصطلح بلغة المصدر( و هى من استراتيجيات القاعدة الذهبية للترجمة)  فذهبت إلى  “قاموس المعاني” وجدت معنى جديد و هو ” قاضى الدائرة”.

و هنا طرت فرحًا،  فهذا المصطلح لا يحدد معنى تام،، و يدور فى ظلاله معانى واسعة، و قد يكون هذا المصطلح حاسم لعملية “النقل الذهبي” للترجمة التى يتبعها المترجمون عند تعاملهم مع الكلمة للوصول إلى المعني الحقيقي لها.

ثم عدت مرة أخرى إلى الجملة و المصطلح و بدأت أقرأ بعض الشئ فى  كتب الفقه ” الإنجليزى”.

لأجتهد  فى تقريب المعني الصحيح حسب سياق النص.

فاستقر المعنى عندى أن  الترجمة الأقرب للصواب  ل Circuit Judge  بناء على كل ما تم من بحث أعلاه هو  : (قضاة الدائرة) كما ذهب قاموس المعاني.

أما كلمة: Recorders

فلم استسيغ الترجمة الحرفية ” قضاة غير متفرغين”  كما وجدتها  فى بعض القواميس،،

و بعد فهم عميق لسياق النص و البحث،، استقر بى المطاف أن أقرب معنى  للمصطلح وفق   النص و مطابقته مع الفقه الانجليزي للمخاطبين بها من محامين عرب ستكون هى : (القضاة المنتدبين).

و عليه وصلت  أخيرًا إلى البر،  بعد رحلة طويلة، أحبت أن أنقلها إليكم كما هى،،

و كانت ترجمتي للجملة:.

The County Courts deals exclusively with civil cases. The full jurisdiction of the County Court is generally presided over the circuit judges or Recorders (part-time judges)).

” تختص المحكمة  الجزئية حصريًا بنظر القضايا المدنية. و يتولى الاختصاص القضائي الكامل لتلك المحكمة كلًا من قضاة الدائرة و القضاة المنتدبين.”

إن المثال السابق  يُعد من  أمتع ما يقوم به المحامى اللغوي فى عمله الفني الدقيق،، و هى  القدرة على الاحاطة بالمعني، و سعيك الحثيث لاثراء معارفك القانونية بالقانون المقارن، و القدرة فى  السعي المستمر على  التوقف على كل  مصطلح يثير الشكك حول معناه الدقيق،  و اختباره  و فحصه مع   السياق المطروح فيه،  ثم بعد ذلك  قدراتك البحثية الواسعة للوصول إلى المعنى اللغوي و الفقهي،  و اختيار  المصطلح السليم غير المخل بالمعني، الذى به تستطيع فى النهاية أن تنقل المعني  بسلاسة و وضوح  لأفهام و خلفيات  رجال القانون المخاطبين به.

و للحديث بقية

 

زر الذهاب إلى الأعلى