المحاماة اللغوية بين أهمية المواكبة وخطورة التغريب
بقلم الأستاذ/ مازن عبد القادر السباعي المحامي
أمهد لك الآن عزيزي القارئ وأتجول معك في دروب المحاماة اللغوية وأبين لك أهميتها وخطورتها بمعالجة مختلفة مستندة على أرض الواقع، وساقوم فيما يلي من مقالات بتلخيص ما يتصل بها من معارف و مهارات أساسية (مثل الترجمة القانونية و اللغة الانجليزية القانونية والقانون المقارن) وكيف تقرأ العناصر الأساسية لحكم محكمة صادر من محاكم المملكة المتحدة. وذلك على ضوء بعض المصادر التى تُدَرَّسْ لطلاب معادلة المحاماة في إنجلترا وويلز، و المعروفة باسم Qualified Lawyer Transfer Scheme)) و اختصارها هو QLTS.
وقد درستُ الكثير من مصادرها و قوانينها و شروحاتها منذ أول اهتمام لي بها في زيارة للإمارات، بعد أن عرفتُ عنها من أحد المحامين المصريين هناك، أثناء أجازة العيد الوطني في مسقط التي كنت أعمل بها مستشارًا قانونيًا، فسافرت للإمارات وسجلتُ نفسي في اختباراتها عام 2016.
فمنذ عدة سنوات، أصبح من حق المحامين في مصر و أغلب بلدان الدول العربية اليوم (المقيدين في جداول المشتغلين فقط) دراسة هذه المعادلة و القيد في جداول المحامين في إنجلترا وويلز، بعد اجتياز اختباري المعادلة اللذين يُعقد أحدهما في أي مركز معتمد في العالم، و الآخر يُعقد في إنجلترا، وتُعرف هذه الاختبارات اختصارًا بـ (MCT-OSCE)
واليوم يوجد _ولأول مرة_ في مصر مراكز اختبارات معتمدة لهذه المعادلة في جامعات خاصة مصرية وأماكن أخرى، بعد أن سبقتنا العديد من الدول العربية و دول الشرق الأوسط في ذلك مثل (الإمارات وقطر وتركيا واليونان والكيان الصهيوني) دون أن نكون منتبهين في المجتمع النقابي و القضائي لمرامي وتداعيات وتأثير هذا الامتداد، و ما هى البيئة الداخلية التى تسمح باستيعاب المتخصصين له في المستقبل في تلك الدول! والذى يعنى بالضرورة أن يكون هناك من الكوادر المصرية المؤهلة لُغويًا وعلميًّا ومهنيًا و قانونيًّا للتعامل مع هذا الملف، لاسيما و أن هناك توسعًا كبيرًا في انتشار هذه المعادلة في العديد من دول مجلس التعاون الخليجي (مثال دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر وعمان) و كذلك العديد من بلدان العالم، رغم أنها تمثل نظامًا قانونيًّا مختلفًا عن نظام التقنين المدني أو الشريعة الإسلامية.
و أصبحت أحد أسباب انجذاب العديد من المحامين العرب للتسجيل في هذه المعادلة هي المغريات المادية الخيالية للوظائف التى تُعرض من العديد من المكاتب و شركات المحاماة الدولية في دول مجلس التعاون الخليجي _وعلى رأسها الامارات_ و التى تشترط أن يكون المحامي قد اجتاز اختباري المعادلة، أو صاحب شهادة تفيد خلفيته القانونية بقوانين المملكة المتحدة.
و يمكن أن نزعم أن سبب انتشار مثل تلك الوظائف في بعض دول مجلس التعاون الخليجي، هو انتشار المعاملات التجارية الدولية في تلك الدول، و إنشاء مراكز لتسوية المنازعات ذات الصلة بالتجارة الدولية في الإمارات العربية المتحدة، تجعل القانون واجب التطبيق عليها هى القوانين الانجليزية.
و لكن ماذا إن تجاوز امتداد تلك القوانين حدود المعاملات التجارية الدولية لتشمل رعاياها في تلك الدول؟!
و هل تطبيق قانون إنجليزيٍّ في مركز دائم للتحكيم في دولة عربية ينطوى على مبدأ التراضى و سلطان الإرادة؟
و إذا كان الأمر كذلك،، فإن تمدد مراكز الاختبارات المعتمدة لتلك المعادلات في المنطقة العربية، أصبح يستلزم من صاحب القرار وضع استراتيجيات تَحدُّ من تأثير هذا التمدد في المستقبل، و ذلك بالتماشى مع التغلب على حجم التحديات الداخلية التى تواجهه.
فنحن ما زلنا نبحث عن مزيد من تطوير للمنظومة الرقمية للنقابة العامة و الفرعيات التابعة لها ومنظومة القضاء و وزارة العدل.
و قد تأخرت نقابة المحامين منذ سنوات طويلة في وضع مدونة للسلوك المهني للمحامين، رغم أن دول عربية شقيقة سبقتنا في هذا الأمر، مثل ما قامت به الهيئة الوطنية للمحامين في المملكة العربية السعودية سنة 2016 بوضع مدونة سلوك مهني للمحامين، و مدونة المحامين في دبي 2018. و قد سبقتنا إنجلترا بوضع مدونة سلوك في 2011 ألحقتها بتعديلٍ جوهريٍّ في نوفمبر 2019.
وقد أحسن قانون المحاماة بتعديلاته بالقانون رقم 147 لسنة 2019 في مادته 62 بالاهتمام بوضع مدونة للسلوك المهني _و إن كان تأخر كثيرًا_ و هو ما اهتم به نقيب المحامين الأستاذ/ رجائي عطية وقد وضعه في أولويات أهدافه منذ قدومه، في وقت نرى فيه انحدار في سلوكيات و قيم و رسالة المحاماة، و عدم معرفة بمحددات واضحة لتلك المدونة المنشودة، أو إدراك حقيقي لأهمية وجودها و مدى تأثيرها على الاستثمارات و الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بمكافحة الفساد و غسل الأموال على سبيل المثال. و كل ذلك يؤثر في التداعيات السلوكية و الفكرية و الأداء المهني للمحامين.
كما أننا مازلنا نبحث عن تطوير آليات إدارة النقابة العامة و فرعياتها ، و المحاكم والشهر العقاري، وتمكين الكوادر المؤهلة و المتجردة لخدمة الصالح العام النقابي بتجرد ووعي، وإيجاد حلقة تكامل ومشاركة حقيقية مع منظومة القضاء في كل ما سبق، حتى يصبح لدينا من القدرات ما يكفي _لنمتلك بتاريخنا و كودارنا البشرية ذلك بالفعل_ للوقوف على مرامي هذا الامتداد التشريعي في المستقبل، وكيفية مجابهته في قضايا التحكيم التجاري الدولي، و عقود التنمية و غيرها من العقود التى تصل لميزانيات دول كاملة.
و لن يتحقق ذلك بتطوير عوامل البنية التحتية و الرقمية والإدارية فحسب، بل بإعداد كوادر كافية على مستوى المحاماة و القضاء و التحكيم قادرة على التعامل مع جميع المنازعات الدولية وفق رسالة و هوية وطنية خالصة لا ينازعها فيها أية مغريات أو تُضعفها صعوبات و تحديات؛ كوادر قانونية متسلحة بالعلم و الإيمان، واضعة المصلحة الوطنية و النقابية و القضائية فوق كل اعتبار.
كوادر متحصنة بقيم و رسالة، ممتلئة بمبادئ حماية التوازن العقدى، ممتلكة القدرات والمعارف القانونية، مدافعة عن المصحلة العامة و السيادة الوطنية، تزود عن الحصانة القانونية والقضائية؛ بالعمل الدوؤب و الاجتهاد المستمر و التطوير الجاد.
و كل ذلك لتفادي خلق جيل مغترب الهوية غير مؤهل قانونيًا ، لا يجد من بيئته المهنية و العلمية مجالا خصبًا يلبي طموحاته بسبب التحديات المهنية الداخلية، يدفعه للارتماء في أحضان تلك القوانين و التشريعات بحثًا عن المادة، دون أن يدرك مراميها و فلسفتها و أهدافها في المستقبل.
نريد جيلًا وأجيالًا متعاقبة تستطيع أن تحافظ على مصلحة الوطن العليا و تحذر مما يهددها، كي لا نجد أنفسنا مع الوقت أمام نوع من الاختراق الناعم دون أن نشعر، يمر باسم القانون و المحاماة الدولية و التحكيم التجاري الدولي إلى أهداف لا نبصرها و لم نستعد لها، بسبب تأخرنا و انكفائنا على أزماتنا و تحدياتنا الداخلية.
والآن لنسلط الضوء على كيفية قراءة حكم صادر من محكمة أجنبية، وسوف يتبع ذلك مقالات أخرى للتعامل مع تلك الأحكام قراءة و فهمًا و تحليلًا ؛ انتهاءً بفهم القانون واجب التطبيق عليه، و كيفية تسبيب القاضي الإنجليزي للأحكام، و ما هى المبادئ التى يستند عليها، و ذلك حسب نوع الدعوى.