المحاكمة في القرآن الكريم
مقال بقلم: الدكتور أشرف نجيب الدريني
تحتل المحاكمة مكانة جوهرية في النظام القضائي، بوصفها الإطار الذي تتحقق من خلاله العدالة، وتتجسد فيها ضمانات المتقاضين، وتُرسى قواعد الإنصاف. وإذا كان القانون الوضعي قد صاغ مجموعة من المبادئ الإجرائية التي تحكم المحاكمة، فإن القرآن الكريم سبق هذه النظم بإرساء أصول المحاكمة العادلة، ووضع أسسًا قضائية تنبض بالعدل والموضوعية، وتستند إلى مبادئ تضمن عدم الجور أو التعسف في إيقاع الجزاء.
يقوم مفهوم المحاكمة في القرآن الكريم على أساس الفصل في النزاعات وفق قواعد العدل، وهو ما يظهر في قول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ” (النساء: 58). فالأمر الإلهي هنا يتجاوز مجرد توصية أخلاقية، ليضع قاعدة أساسية تحكم القضاء، وهي وجوب التجرد والالتزام بالعدالة المطلقة عند إصدار الأحكام، بغض النظر عن الأطراف المتنازعة.
ويتجسد مبدأ استقلال القضاء في قوله تعالى: “وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ. فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ” (الأنبياء: 78-79). فقد أعطى الله لسليمان عليه السلام حق الاجتهاد في الحكم، رغم كونه ابن النبي داوود عليه السلام، مما يعكس مبدأ استقلال القاضي في قراره، وعدم خضوعه لأي تأثيرات خارجية. وإلى جانب ذلك، فإن هذه القصة تحمل في طياتها تأصيلًا لمبدأ التقاضي على درجتين، حيث صدر الحكم الأول من داوود عليه السلام، ثم أعيد النظر فيه من قبل سليمان عليه السلام، الذي فهم القضية بطريقة مختلفة وأصدر حكمًا آخر أكثر دقة. وهذا يدل على أن العدالة لا يجب أن تتوقف عند حكم واحد، بل يظل من حق المتقاضين أن تُراجع أحكامهم من قبل جهة أخرى أكثر تدقيقًا، وهو ما يشكل جوهر فكرة التقاضي على درجتين في الأنظمة الحديثة.
ويظهر هذا المبدأ جليًا في قصة يوسف عليه السلام، التي تجسد صورة فريدة للمحاكمة متعددة الدرجات. فحين اتُهم ظلمًا بمحاولة الاعتداء على امرأة العزيز، انعقدت محاكمة سريعة قررت سجنه بناءً على شهادة امرأة العزيز دون تمحيص كافٍ للأدلة. لكن القضية لم تُغلق نهائيًا، بل أتيحت فرصة لاحقة لإعادة النظر فيها عندما ظهرت أدلة جديدة، حيث قال الله تعالى: “قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۖ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ” (يوسف: 51). وهنا، جرت محاكمة ثانية أمام الملك، كانت أكثر عدلًا، وأدت إلى تبرئة يوسف وإعادة الاعتبار له. فهذه القصة تقدم نموذجًا عمليًا لفكرة الاستئناف، حيث لا يكون الحكم الابتدائي نهائيًا، وإنما يجوز إعادة النظر فيه عند ظهور أدلة جديدة أو عند وقوع خطأ في التقدير الأول.
ويُعد مبدأ المواجهة بين الخصوم، وهو من أركان المحاكمة العادلة، واضحًا في الآية التي تصف مجلس القضاء عند النبي داوود عليه السلام، حيث جاءه خصمان وطلب أحدهما من الآخر أن يرد عليه حقه، فقال تعالى: “إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ” (ص: 21-22). فالآية ترسخ بوضوح حق كل خصم في عرض دعواه أمام القاضي، ووجوب استماعه للطرفين دون تحيز أو تعجل في إصدار الأحكام.
أما مبدأ العلانية، وهو أحد ضمانات المحاكمة العادلة، فيجد جذوره في قوله تعالى: “وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ” (البقرة: 283). فالنص القرآني لا يكتفي بتقرير الحق في الشهادة، بل يلزم بالإفصاح عنها، مما يعكس ضرورة الشفافية في المحاكمات، ويمنع الاقتصار على الأدلة السرية أو القرارات التي تصدر في الخفاء.
وفي هذا الإطار، فإن القرآن الكريم لم يغفل أهمية مراجعة الأحكام عند ظهور ملابسات جديدة، وهو ما يتجسد في قاعدة التبين والتثبت، كما في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا” (الحجرات: 6). فإذا كان الحكم قد صدر بناءً على وقائع غير مكتملة أو مشوبة بالخطأ، فإن وجوب التبين والتثبت يقتضي منح الأطراف فرصة أخرى لإعادة عرض القضية أمام درجة تقاضٍ أعلى، وهو جوهر فكرة الاستئناف في النظم القضائية الحديثة.
وبذلك، تتجلى في القرآن الكريم صورة متكاملة للمحاكمة العادلة، حيث تتأسس على مبدأ العدل المطلق، واستقلال القاضي، وحق الخصوم في المواجهة، وعلانية الإجراءات، وكفاية الأدلة، والمساواة أمام القضاء، وضمان حق الدفاع، وإمكانية مراجعة الأحكام عبر التقاضي على درجتين. وهذه المبادئ التي صاغها النص القرآني تشكل الأسس التي تبنتها الأنظمة القضائية الحديثة، مما يعكس سبق التشريع الإسلامي في إرساء قيم العدالة، وجعل المحاكمة إجراءً يُحقق التوازن بين الحق في العقاب، والضمانات التي تكفل عدم الظلم أو التعسف في تطبيقه.
العدالة ليست منحة تُعطى ولا هبة تُوهب، بل هي حقٌ مقدسٌ لا يليق بأمة تدّعي التحضر أن تفرط فيه. فالمحاكمة ليست مجرد أداة للفصل بين المتخاصمين، بل هي مقياس لرقي الأمم ونهضتها، وهي الحد الفاصل بين المدنية والهمجية، بين الحق والباطل، بين الحياة والموت. فلا عدل بغير محاكمة عادلة، ولا حضارة لمن لا يقيمون للعدالة وزنًا. والله من وراء القصد.