المال ومعالم التقريب (1)
من تراب الطريق (919)
المال ومعالم التقريب (1)
نشر بجريدة المال الاثنين 24/8/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
في كتابه الضافي: «معالم التقريب»، وقف أستاذنا العالم الفقيه المفكر الجليل محمد عبد الله محمد عند المال وأثره على الدعوات بعامة، وفيما يتعلق بمعالم التقريب بين المذاهب بخاصة.. ويبدأ بإيضاحٍ يبادر ببيانه، هو أن «التقريب» لا يعادى المال ولا يواليه، ولكن المال يلفت إليه دعوة التقريب من جهة آثاره على الأرواح، باعتباره قيمة قد تنافس الدين، وباعتباره عنصرًا في الواقع، ووسيلة من الوسائل في خدمة الحاجات المادية اللازمة للدعوة الدينية، وباعتباره أداة للتعبير عن العواطف بما فيها عاطفة التدين.
فالمال قوة في المجتمع ليس لها في نظر الناس حدود، وهو قوة مركزة تستخدم في تحقيق آلاف بل ملايين الرغـبات والأغراض ، لذلك فقد صار الصراع على المال صراعًا من أجل القوة فـي أصفى وأيسر صورها، فهو في مقدمة قائمة القيم فعلا وواقعا في كل الجماعات حتى الماركسية منها، وأدى إلى سيادة «الطابع المادي» الذي هو أكثر ظهورا عند السوقة والمحتاجين وأهل الفقر والكتل بعامة، نتيجة الشعور بالاحتياج والضيق وشدة التطلع إلى التخلص أو الراحة منهما، من أجل هذا تتعاظم غالبا قيمة المال ـــ حتى القليل منه ـــ في عين الفقير، ولذلك لم تستطع الأديان حتى في عنفوانها أن تحطم مكانة المال في قلوب الكتل الفقيرة.
بيد أن هذه الكتل الفقيرة ليست هي التي تعطي المجتمعات طابعها عبر التاريخ، وإنما يستمد المجتمع طابعه دائما من الطبقات التي تعلو القاعدة، كما هي الحال في الأبنية عموما، وهذه الطبقات هي التي يمكنها أن تقف من المال موقفا فيه شيء من الهدوء يسمح بالتأمل، وهي التي يمكن أن تفطن إلى أضرار المال وأخطاره وقدرته الشيطانية على التسرب إلى الروح وإتلاف الضمير وفي هذه الطبقات ــــ التي تعلو القاعدة ــــ يمكن أن يتقابل الدين كقيمة مع المال مقابلة فيها صراع، فإذا فاز الدين انخفضت مكانة الغنى بالنسبة للفقير، وتراجع شأن المال، وقل أو اعتدل تهافت الناس على الثراء، وسهل من ثم بذل المال والتقرب به في الصدقات وأنواع البر سرا وعلانية، ولم يعد الفقر من المال نقصاً يغض من قدر الآدمي في عين نفسه أو في عيون الناس، ولم تعد ملكية المال تزكى ـــ في ذاتها ـــ قدر صاحبها، وخف بهذا جانب مهم من جوانب الصراع على الدنيا، وتسربت روح ذلك وأنـداؤه إلى الكتل الفقيرة، فيلطف من حدة ما تعانيه.
وعملية رفع الدين إلى رأس قائمة القيم، هي في الدرجة الأولى عملية خفض لمكانة المال وسلطانه وأثره على النفوس، على أنه ليس من السهل ـــ مادام الناس على ما هم عليه ـــ أن يبـقى الدين مـدة طويلة على رأس جدول القيم فعلا وواقعا.
ويبدو أن تصدر الدين قائمة القيم في نفوس الناس لا يجئ إلاّ كرد فعل في أعقاب النكبات والانتكاسات، أو في أعقاب نوبات التكالب والسعار على الدنيا التي تجتاح المجتمعات عندما يبلغ فيها الشغف بالمادة ومتاع الدنيا حد الاقتتال، ففي أعقاب هذه وتلك تكون الظروف مهيأة للدين لأداء دوره الطيب والملطف لما يصيب المجتمعات من الأوضار!
ويجب أن يلتفت أهل التقريب وغيرهم من أهل الدعوات ـــ في تأثير المال ـــ إلى دور الخامة البشرية، أي مجموعة الاستعدادات والقدرات والخصال التي لدى الإنسان، وهي قدرات تختلف باختلاف المكان والزمان والظروف، وترك ويترك آثاره الحتمية في تاريخ الأديان وكيفية نموها، وعلى آثار صراعها مع المال والقوى المادية، وهو يحدد مع غيره من العوامل مستقبل أي دعوة دينية قديمة أو جديدة.
وهبوط الخامة البشرية شيء حدث ويحدث في كثير مـن الجماعات، ويترجم عن وجوده في صورة خلل مزمن في عمـل الأنظمة، وفي ذهول وإعراض الناس عن الاهتمام بالنجاح للأنظمة أو الغيرة على الخير العام، ولا سبيل إلى علاج هذا الهبوط حين يستشرى في الخامة البشرية، إلاَّ بمحاولة تغيير النفوس ودفعها إلى العودة الضرورية اللازمة لنجاح المجتمعات والأفراد.
ويبدو أنه في هذا الصراع بين الدين والمال على نفوس الناس وأرواحهم، لم يدرس المسلمون الكسل وأثره دراسة كافية، ولم ينتبهوا إلى دوره الخطير في تاريخهم، ولا إلى الصلة الوثيقة بينه وبين المغالاة والتطرف والجمود!!