اللغة القانونية وعلم المصطلح القانوني (صناعة المصطلح القانوني)
فصول في "اللُّغتين القانونية والأصولية "(الفصل 16)
بقلم/ الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
[المحامي، وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية ]لا زلنا مع جوهر “اللُّغة القانونية” وسرِّها الكبير ألا وهو “المصطلح القانوني اللغوي”، والذي به يُعرف القانون وبه تُعرفُ علومُه، ولا غَرْو في ذلك إذ يتفق علماء المنهج على أنَّ العلوم تتمايز بموضوعاتها وبمسائلها ودلائلها ومصطلحاتها، وأنه لا يمكنُ تشْييد بناء علمي أو معرفي إلا بمصطلحات متخصصة وإطلاقات ضابطة لا تدلُّ إلا على معنى واحد لتحقيق الغاية الاصطلاحية في هذه العلوم.
و”المصطلح القانوني” مركب وصفي جامع يرد على معان كثيرة ، فقد نورده قاصدين به أوسع معانيه فيدل على النصوص وعلى مفرداتها ومركباتها ومتعلقاتها التي تنتمي إلى حقلها المباشر، والأمر كذلك في “اللغة القانونية”، فإذا قلنا المصطلح القانوني اللغوي، فإنما نقصد به معناه الواسع أيضا بما يشمله من مفردات وتراكيب ذات صلة مباشرة بنصوص القانون التشريعية وبأوراقه القضائية ولغاته القانونية كافة.
والأمر نفسه في قولنا: “المصطلح القانوني الرسمي” لدى سلطات القانون ومؤسساته ويراد به اللغة القانونية الرسمية وخطابها القانوني على نحو ما تعارفت عليه هذه السلطات وتلك المؤسسات.
وكذلك فقد يرد على أضيق نطاق حيث معناه الأصلي المباشر والضيق – وهو الأصل – فيقال المصطلح القانوني التشريعي ويقصد به حينئذ المصطلحات سواء كانت مفردات أو تراكيب أو جمل كاملة تدل مباشرة على معنى واحد وتحدد مفهوما معينا للغة القانونية [انظر م.رزونتال ، ب.يودين : الموسوعة الفلسفية ص 480 ، ترجمة سمير كرم، ط، دار الطليعة بيروت 1974م ]
ونقول: مصطلح “الجريمة” قاصدين به معناه الاصطلاحي المتفق عليه فحسب، حتى لو قاربه معنى آخر فلا يعد هو الاصطلاح المقصود، ومثاله ما أورده الدكتور محمود نجيب حسني عن ضابط الجريمة في مدلولها الجنائي بقوله :” يذهب كثير من الشراح إلى تعريف الجريمة بأنها ( فعل يفرض له القانون عقاباً)، وضابط الجريمة في هذا التعريف هو العقاب الذي يقرره الشارع لها، فهو تعريف لها بأثرها لا بعناصرها “ثم علق على ذلك :” والرأي عندنا أن التعريف الكامل هو ما حدد عناصر الجريمة إلى جانب بيانه لأثرها – ثم قال – الجريمة: فعل غير مشروع صادر عن إرادة جنائية يقرر له القانون عقوبة أو تدبيراً احترازياً “. [انظر د. محمود نجيب حسنى : شرح قانون العقوبات القسم العام ص 36، نشر مكتبة قطر الوطنية د.ت].
وهكذا يتجلى المصطلح في صورتين تمثلان حديه الأدنى الضيق وذلك المتسع العام، وهناك بينهما أواسط وهي ما يكون تناولنا للمصطلح في ضوئها ، وهي أواسط سياقية سواء أمالت إلى أي من الحدين السابقين أو لم تمل.
وعلى أي حال فالمصطلح القانوني بمعناه الواسع أو الضيق أو ذلك بمعناه الوسطي السياقي هو من أبرز مظاهر اللغة في كل علم وفن ، ولذلك فقد استوصينا به تأصيلا وإيرادا في الباب الأول وعقدنا لتحريره أكثر من فصل ومبحث، وما ذلك إلا لخصوصيته وأهميته فهو من أهم جواهر تنظيم اللغة القانونية بلا منازع إضافة إلى فواردها الحرة وأساليبها وتراكيبها …
وعلى حد قول الدكتور المدني :” فالمصطلح كما هو معروف، هو مفتاح العلم والثقافة.. وبدون القدرة على استيعاب المصطلحات وتوليدها وفهمها لا يمكن استقرار علم ولا فهم وأنّ فهم المصطلح واستيعابه يمثل التحدي الأساسي لرجل القانون وعلى مدى ذلك يتوقف تطبيقه الصحيح لأحكامه” ثم قال :” فالمصطلحات تتركب لتدل على مفاهيم وتحيل إلى مضامين ذلك أن: الألفاظ للمعاني أزِمّة، وعليها أدلّة، وإليها مُوصِّلة، وعلى المراد منها مُحصِّلة فالمصطلح تعبير قوي عن القانون والقانون مضمون حي له، واستقامة المصطلح وعافيته دليل على استقامة وعافية نظامنا القانوني”.
ولأهمية المصطلح القانوني فهذا نموذج تطبيقي على الاهتمام بالمصطلحات القانونية ” لما يمكن أن نسميه بــ” تجذير المصطلح القانوني” حيث تناولناه من خلال زاوية أولية وهي زاوية اللفظة القانونية أو الكلمة القانونية المفردة باعتبارها الوحدة الصغرى في بناء التركيب القانوني وفي بناء الجملة، والتي بدورها هي وحدة بناء العبارة القانونية والنص القانوني .
فمن الكلمة وبناء عليها تصاغ وتنظم “المصطلحات القانونية” على أيِّ وضعية كانت عليها أبنية هذا المصطلح بناء مفردا قوامه لفظة مفردة أو تركيبا يجمع كلمتين أو أكثر، وعلى أي حال كان عليه شكل الاصطلاح وصفيا أو مركبا أو مختلطا بينهما، بل ومن الكلمة أيضا يمكننا نسج النص القانوني والمكتوبات القانونية الرسمية والبيانية وتكوين كل لغات القانون في جميع صورها الكتابية والشفاهية..
وقد حرصنا على إبراز هذا الدرس القانوني اللغوي وتلك المسائل القانونية اللغوية المهمة والتي ترسخ للمصطلح القانوني ابتداء ثم لما بعده فأسميناها “علم الكلمة القانونية ” أو فلنقل “علم الألفاظ القانونية” باعتباره علما أو فرعا معرفيا من فروع علم اللغة القانونية، ومن ثم فهذه نبذة موجزة بشأن هذا العلم أو ذلك الفرع المعرفي :
أولا: تعريفه، علم يدرس أصل الكلمة القانونية اللغوي (بنائيا ودلاليا) وسياقاتها وتوظيفاتها القانونية، أو هو :”علم يدرس الكلمة القانونية من حيث أصولها اللغوية البنائية والدلالية وتوظيفاتها القانونية”. أو “هو علم يدرس المفردات اللغوية القانونية وتوظيفاتها القانونية”
ثانيا: موضوعه العام : موضوعه هو الكلمة القانونية والكلمة العربية القابلة لأن تكون قانونية، من حيث:
1- بناؤها ودلالتها لغويا وقانونيا وما يتعلق بذلك من البناء والدلالة اللغوية، أو البناء والدلالة القانونية.
2-الكلمة باعتباراتها:
أ- المفردة وهو ما نعبر عنه بالفوارد جمع مفرد.
ب- المركبة حيث التراكيب القانونية (الوصفية والإضافية على وجه الخصوص) ، ولعل “المصطلح القانوني” لا يجاوز هذين المستويين غالبا على نحو ما سبقت الإشارة إليه في التأسيس الاصطلاحي للغة القانونية في الباب الأول، فهو يأتي مفردا وقصاراه أن يأتي مركبا.
نموذج لمصطلح قانوني مميز:”مصطلح اللغة العربية القانونية
وهو المصطلح الوسيط (الهجين) بين اللغة والقانون، إذ بناءً على المقال السابق رقم (15) من مقالات فصول في “اللُّغتين القانونية والأصولية” يأتي الداعي لاصطناع مصطلح “اللغة العربية القانونية” ، وهو المصطلح العلمي الأول في أبنية مصطلحات “اللغة القانونية” ، كما أنه المصطلح الوسيط بين اللغتين العربية وبين اللغة القانونية، إلا أنه ليس المنتهى .
فهو مجرد عبور من عالم اللغة العربية التراثية الواسع إلى عالم التخصص اللغوي القانوني في أوله، ومن ثم فهو يعبر عن مستويين متقاربين وهما المستوى اللغوي المناسب والمستوى القانوني الأول حيث يصب في معنى أن اللغة العربية كلها بجميع مكناتها وقواعدها وسننها وطرائقها صالحة للقانون كله في جميع مساراته ومجالاته ….
وهو ما يعبر عن أوسع اللغات القانونية وبالأحرى أوسع المستويات اللغوية القانونية ، وهي مستوى نظري أكثر منه عمليا إذ سترد عليه التساؤلات الخمسة سابقة الذكر في المصطلح الأول ، ولا يمكننا ابدا كذلك هدم هذا المستوى وإلغاءه كما لا يمكن اعتماد لنبني عليه مستوى علميا معتبرا .
فنحن نعترف به ونعتبره المعين والبحر اللغوي القانوني العام الذي تنهل منه نظرية اللغة القانونية وعلمها وفروعه وشعبه … ، وغالبا ما نذكره مصحوبا بالمستوى البياني سابقه وهو ما يعبر بحق عن اللغة العربية القانونية أو عن المستوى الثالث البياني لها.
بمعنى أن جميع مهارات ومكنات اللغة العربية الصالحة للاستخدام القانوني، وكما عبرنا بهذا المصطلح عن المستوى الثالث للغة القانونية فإننا أيضا نفسر به معنى اللغة العربية المقصودة في نصوص الدستور مادة (2) وقانون السلطة القضائية (مادة 19) في اختصاصها بأنها لغة الدولة ولغة المحاكم ، حيث عبر المشرع عنها باسمها التراثي العام ، ومحال أن يريد بها تلك اللغة الوعرة التي لا يعرفها إلا الأعراب القح في أقصى البوادي أو تلك اللغة الوجدانية التي تعبر عن أدق وجدانيات صاحبها فهي مغرقة في الوجدانية والذاتية ، أو غيرها من الأساليب الملغزة أو الغامضة وكلها مما يصح أن يطلق عليه اللغة العربية.
حتما إنما أراد بها لغة الاتصال والإيصال والتواصل القانوني، لغة تقارب اللغة الأصولية المتخصصة سابقتها، لغة تناسب المعاني والدلالات القانونية وما يريد المشرع إيداعه في قوالبها البنائية ، ومن هنا فقد أسميناها باللغة العربية هكذا -كما نص عليها المشرع- مع لاحقة وصفية في لفظة “القانونية” … فهي اللغة العربية -كما نطق بها- في وجها القانوني أو في وظيفتها القانونية، وكذلك عبرنا بها عن اللغة المقصودة في “الميثاق العربي للغة القانونية” وفي “برنامج التكوين اللغوي والتمكين المهاري” لتقريب ما ذكره المشرع .