اللغة القانونية في النظامين الشرعي والوضعي
بقلم/ الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
المحامي وأستاذ القانون المساعد بكلية الشريعة والقانون – الجامعة الإسلامية بمينسوتا
فصول في “اللُّغة القانونية”(الفصل 2) – اللغة القانونية في النظامين الشرعي والوضعي
لغةُ الأصول أو “مبحث القواعد الأصولية اللغوية” هو الوجه المشرق للغة القانونية في النظام القضائي الشرعي ، وهي لغة دلالية وضعها الأصوليون لفهم النصوص واستنباط الأحكام منها، وقد وَفتْ وصمدتْ لما وضعت له لما يُقارب ألفًا وأربعمائة عام حتى الآن ، فأين هي من النظام القانوني والقضائي الوضعي ؟!
وقفنا في المقال السابق عند جملة تساؤلات هي :
1-إلى أي حد بقي النظام القضائي الشرعي قائما بالتشريع متماسكا بلغته التي قوامها “مبحث القواعد الأصولية اللغوية” ؟
2- متى برز النظام القانوني الوضعي مستعينا بتلك القواعد الأصولية اللغوية ؟ ومتى انحسرت وتناءت عنه هذه القواعد…؟!!
3-متى غدا عاريا من غير لغة قانونية إلا من بقايا آثار النابهين في اللغة العربية عموما وفي لغة الأصول خصوصا من القضاة وفقهاء القانون والمحامين وغيرهم مثل الشيخ أبو زهرة والشيخ علي حسب الله والعلامة السنهوري وغيرهم الكثيرون ؟
نقول : على مستوى عالمنا العربي بعد رحيل الحملة الفرنسية عن مصر وبداية من سنة 1805م تقريبا يمكننا أن نميز بين نظامين تشريعيين وقضائيين :
أولهما : نظام شرعي
وهو الراسخ منذ الهجرة النبوية للمدينة، وقد صمد لقرابة ألف ومائتي عام تقريبا في كافة الدول العربية والإسلامية في التقاضي والمعاملات وتنظيم حقوق الناس ومعاملاتهم ،ففي مصر على سبيل المثال ظل النظام القضائي الإسلامي الذي تطبق فيه أحكام الشريعة الإسلامية في جميع المواد المدنية والجنائية منذ( السنة 18 هـ = 460م)- حتى( 1855م )والتي أصدر فيها الخديوي سعيد القانون الهمايوني [انظر د. شريف كامل شرح قانون العقوبات القسم العام 33 ، ط دار النهضة العربية : القاهرة 2013م .] ولا يزال الحكم الشرعي قائما في دول القضاء الشرعي [مثل المملكة العربية السعودية وإلى حد ما السودان حتى أشهر قليلة ]
الثاني : نظام وضعي
وهو ما حل بمصر على سبيل المثال بعد سنة 1805م شيئا فشيئا ، ثم في معظم الدول العربية، وقد مرَّ بمراحل عدَّة قبل تأييده وتمكنه من النظام التشريعي ثم النظام القضائي في عمومه خلا الأحوال الشخصية وبعض الظواهر الأخرى، بحيث أصبحت الشريعة الإسلامية مجرد مصدر من مصادر القانون .
أما عن لغات هذين النظامين فيمكن تعرفها في الآتي :
(1) القواعد الأصولية اللغوية وهي تمثل لغة النظام القضائي الشرعي .
بالنسبة للغة النظام الشرعي فإنها تأسست منذ كتب الشافعي فيه ت 204هـ كتابه :” الرسالة” في الأصول وتبعه علماء الفقه ثم توافر علماء المذاهب الفقهية والأصول والتفسير وعلماء الكلام … فتأسس بذلك علم قائم يدور حول القواعد الأصولية الثلاثة وهي :
1-القواعد الأصولية .
2- القواعد العقلية.
3- القواعد الأصولية اللغوية – المعنية بالتناول الآن .
وهي وتلك القواعد الكلية اللغوية التي استخلصها علماء الأصول واستمدوها مما تقرر عند أئمة اللغة العربية الأثبات في دلالة الألفاظ والأساليب على المعاني. بناء على مقدمة عقلية مجمع عليها قوامها أن القرآن نزل بلغة العرب ولابد لفهمه واستنباط أحكامه من مراعاة مقتضى أساليب تلك اللغة وسننها وقواعدها ، ومراعاة أخيلتها ومصطلحاتها وأعرافها في البيان والإيراد …
وهو مبحث مفرد من جملة مباحث هذا العلم- إذ لم يفرد حتى الآن بتنظيم علمي ولم يختص بتأطير منهجي باعتباره علما قائما مستقلا قابلا للتطور – يقوم على مسائل معدودة مدارها علاقة اللفظ بالمعنى واعتبارات هذه العلاقات الأربعة باعتبار وضع اللفظ للمعنى وباعتبار دلالته على المعنى وما يتعلق بالمعنى ظهورا وخفاء ثم استعمال اللفظ في المعنى ،.
وهي عند الأصوليين “قواعد كلية يُتوصل بها إلى فهم مراد الله، عموما و يستعملها الأصوليون في استنباط الأحكام: ، وبسطها في التالي :
أولا : – باعتبار وضع اللفظ للمعنى، ويشمل هذا القسم:
1-العام والخاص.
2- الأمر والنهي.
3- المطلق والمقيد.
3- المشترك والمؤول …
ثانيا: -باعتبار دلالة اللفظ على المعنى.
ويدرس هذا القسم:
1- عبارة النص.
2- إشارة النص.
3- دلالة النص .
4- اقتضاء النص (عند الحنفية) المنطوق والمفهوم، ومفهوم المخالفة (عند الشافعية).
ثالثا: -في ظهور المعنى وخفائه ويهتم هذا القسم ب:
1- ظهور المعنى (الظاهر، النص، والمفسر، والمحكم .. )
2- خفاء المعنى: ( الخفي، والمشكل، والمجمل، والمتشابه).
ويهتم كذلك بالبيان وأنواعه.
رابعا :-استعمال اللفظ في المعنى، ويتناول:
1- الحقيقة والمجاز.
2- الصريح والكناية.
3- حروف المعاني.
هذه إذن نظرة موجزة عن الأصول اللغوية التي تندرج في القسم الأول من أصول التفسير، وهي قواعد كلية يُتوصل بها إلى فهم مراد الله، وهي ذاتها التي يستعملها الأصوليون في استنباط ، فنظموا بحوثهم اللفظية على أساس هذه التقسيمات الأربعة ودرجوا عليها جميعا؛ لغاية فهم وتفسير النصوص الشرعية واستنباط الأحكام الكلية من أدلتها ، وسيكون لنا في ذلك وقفات لاحقة .
(2)النظام الوضعي (قانونيا وقضائيا)
بالنسبة للنظام الوضعي ونظامه القضائي المعاصر وموقعهما من القواعد الأصولية اللغوية عامة ومن “لغة القانون” خاصة فإنه النظام القانوني المستقر في جل الدول العربية، منذ استقلت قواعده القانونية بأصولها ونظامها عن قواعد الدين والأخلاق إلى حد كبير باعتباره علما اجتماعيا وضعيا.
ونرى ابتداء أن نقدم له بهذا التمهيد التاريخي الموجز لاستعراض موقفه من القواعد الأصولية اللغوية سابقته ومن خلال واقعه اللغوي المعاصر سوف تتجلى لنا علاقته باللغة القانونية وكيف اتصلت به وكيف تناءت عنه وتباعدت الشقة ومدى الهوة بينهما من خلال المراحل الآتية :
المرحلة الأولى : اضطلاع علماء الأصول وقضاته والمبتعثين ببناء تشريعاته الوضعية ولغة نظامه القضائي
مرت اللغة العربية بأطوار من القوة والضعف فكانت في أوج قوتها في الجاهلية وما بعدها من عصور صدر الإسلام وعصري بني أمية وبني العباس ثم تضاءلت في العصر المملوكي، ثم زاد تدهورها وغلبت عليه التقليدية والسجع المتكلف وغير ذلك من ظواهر الوهن .
ثم بدأ الإحياء والازدهار في عهد محمد علي مع بروز البعثات إلى الخارج إرهاصا بظهور المدرسة الكلاسيكية في الشغر واتجاهات النثر الحديث وتوالى ازدهار اللغة العربية بأجناسها الأدبية الشعرية والنثرية فيما بعد ، خلوصا إلى واقعها المعاصر ما بين القوة والوهن …!!
وما يعنينا الآن هو “اللغة الأصولية ولغة القانون ” وكلاهما يمتد بسبب وثيق إلى اللغة العربية الفصحى الأم … ويمكننا ملاحظتها على هذا النحو :
منذ حكم محمد علي مصر( 1805 –1849 م) وعلى رغم إصداره قوانين عدة لتنظيم أعمال الإدارة على وجه الخصوص وتنظيم الظواهر التي استجدت على مصر بحكم التطوير الشامل الذي رعاه محمد علي فاستعان عليه ببعض القوانين الفرنسية، إذ أصدر بعض التشريعات :
أولها هو قانون الفلاح الذي أصدره في يناير 1830م .” وكان يعني بمعالجة جرائم اختلاس المحاصيل الزراعية أو أدوات الزراعة ونقل الحدود واستعمال ماشية الغير دون إذنه “.
ثانيها : قانون السياسة الملكية صدر سنة 1837م ، وتناول شئون الموظفين من حيث الواجبات والجرائم التي تقع منهم في أعمال الوظيفة العامة مثل التبديد والتكاسل عن العمل وإهمال الوظيفية.
ثالثها: قانون 1843م ، وقانون عمليات الجسور لضبط واجبات المهندسين في رعاية الترع والجسور .
رابعها: قانون سنة 1844م باسم سياسة اللائحة لتحديد عقوبات الموظف الذي يتأخر في إنجاز عمله .
ثم عمدت الحكومة إلى جمع تلك القوانين في قانون واحد باسم ” المنتخبات” وكانت ترجع إلى مصدرين رئيسين.
أولهما : أحكام الشريعة الإسلامية.
ثانيهما : القانون الفرنسي .
وهو قانون نابليون الصادر 1810م ، في جرائم مثل تزير أختام الحكومة والنصب وغيرها[د. شريف كامل، شرح قانون العقوبات القسم العام ص 34 ، 35] ، وحتى قبل سنة 1855م والتي أصدر فيها سعيد القانون الهمايوني كانت الأنظمة القضائية على ما هي عليه في الغالب الأعم من حيث سيادة أحكام الشريعة الإسلامية وقوة لغتها وحضور قواعدها الأصولية اللغوية وفاعليتها .
وهنا ملاحظات عدة أهمها :
أ- أنه يمكننا النظر إلى الانفتاح في عهد محمد علي وبعثاته العلمية إلى فرنسا من منظور إيجابي للغة القانون خصوصا ، وإلى اللغة العربية عموما ، حيث نشطت حركة الترجمة وتألقت اللغة العربية على يد أكابر العلماء الشرعيين واللغويين والعلميين في عصر محمد علي وما بعده، فثم رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك ..
وتمثلت آثار هذه الحركة العلمية في تطور الأدب العربي الحديث وظهور الاتجاهات الشعرية والأدبية الحديثة المدرسة الكلاسيكية ثم المدرسة الرومانسية وأدباء المهجر ثم مدرسة الديوان… والخروج من عباءة التقليدية للأدب في العصر المملوكي والتي كانت ذات تكلف في شعرها ونثرها . … ولينظر إلى كتابات رفاعة الطهطاوي وغيرهم من الأدباء وصولا إلى مصطفى صادق الرفاعي والمنفلوطي وغيرهم ….
2-قامت “القواعد الأصولية اللغوية” التي كانت راسخة في النظام القضائي الشرعي ومؤسساته على طول وعرض الدول الإسلامية أجمع قامت ببناء النصوص المترجمة حيث انتقت مفرداتها وصاغت جملها ونظمت نصوصها فاستقامت نصوصا تشريعية .
تبعها نظام قضائي وضعي جديد كانت له لغته في أحكامه وفي ادعائه وفي دفاعه وفي صياغة ونظم مذكراته وكتاباته الرسمية والبيانية على المستويين الكتابي والشفاهي ، وهو ما يحسب لطائفة القضاة والعلماء الشرعيين مع أولئك المبتعثين النبهاء الذين عربوا النصوص القانونية الغربية ( من اللغة الفرنسية خاصة ) وأحسنوا تعريبها وصوغها حتى كانت بذلك البناء القانوني والتأصيل الدلالي الذي وصلنا منهم .