الكدح في الحياة

الكدح في الحياة

نشر بجريدة الوطن الجمعة 14 / 8 / 2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

الماضي وإنْ ولّى، إلاّ أنه مصاحب بصورة ما لصاحبه، فكل آدمي صغيرا أو كبيراً.. متقدماً أو متخلفاً.. يصحب ماضيه معه أينما اتجه… هذا الماضي مهما ابتعد، مخزون بصفة عامة في ذاكرته كأفكار وصور ومشاعر، ومحفور في بدنه كأنسجة وأوعية وأعصاب !

لا يمكن للآدمي أن يلاقى يومه وغده بغير هذا المخزون.. لا يمكنه أن ينتزعه أو ينحيه مهما أجهد نفسه في تنحيته جانبا أو تكلف التخلص منه أو مقاومته ! .. نحن دائما -أردنا أم لم نرد- نقدم ماضينا إلى قابلنا ملوناً بألوان «ذات» كل منا.. تلك الألوان التي تتجمع وتتراكم ويتداخل بعضهـا في بعض، ويحـل بعضها محل بعض في تفاعلها مع ماضينا.. لا تتوقف عن التلون والتجمع والتراكم والتداخل والحلول مهما امتدت حياتنا وطالت أعمارنا !

هذه «الألوان» المتفاعلة في ذواتنا، ألوان متنوعة المصادر من الماضي الشخصي ومن تراكمات التاريخ بعامة، نتوارث جانبا منها، ونكتسب أغلبها تباعاً من المحيط الذى نعيش فيه فتصبح جزءاً منا حين تقبلها «الذات» وتضمها إلى رصيدها.. تبقى مستقرة في مخزونها إلى أن يطرأ عليها -على الذات- ما يحملها على التخلّي عنها ليأخذ غيرها مكانها !

وألوان الذات المتعددة بطبيعتها تتشابه في سمات، وتختلف في أخرى.. يتشابه الآدميون في عين من ينظر إلى سمةٍ معينة، فيتشابه عنده أبناء نفس العصر أو نفس العنصر أو الأصل أو السحنة أو لـون البشرة.. أو أبناء نفس الوطن أو نفس الحضر أو نفس الريف.. أو نفس الجيل أو نفس الطبقة أو الأسرة.

ومع ذلك فداخل هذه الأشباه يقع أيضاً الانقسام مع الاختلاف والتشابه.. يجري ذلك نتيجة تشابه أو اختلاف الطبيعة أو الذوق أو التربية أو الظروف، بل قد يتعرض الفرد الواحـد لمثل هـذا فيتشابه مع نفسه في مراحل من حياته، ثـم يخالفهـا في مرحلة أو مراحل أخرى.. يعي الفـرد هذا أو لا يعيه حسب نمـوه أو تدهـوره أو ركـوده أو نشاطه، أو حسب تعرضه لتغير شديد في ظروف، أو استقرار وثبات أحواله في ظروف أخرى !

وبرغـم هـذا التـراكب والتركيب الشديدين فيما يلتئم ويتجمع في مخزون «الذات» الآدمية، فإنه لا يجعل حياة الآدمي معقدة في نظره.. ذلك أنه لا يرى ولا يشهد ولا يواجه ولا يفكر بانتباه وعناية فيما يجري عليه في داخله أو خارجه من أحوال، إلاّ حالة حالة !.. ولا يشغل التفاته -في النادر- مجموعة حالات يربط بينها ويعمل التأمل فيها باحثا منقبا عن علاجها.. فإذا فعل وربط وتأمل، فإنه يشعر عندئذ بالضيق والقلق والحيرة، ولا يزايله أو يفارقه هذا الشعور إلاّ إذا تبددت تلك المجموعة من الحالات وارتد هو إلى التعامل مع واقعه المعتاد شيئاً فشيئاً كمألوفه ومألوف من سبقوه !

ويبدو أنه من هنا كان عشقنا للبساطة والبسيط والتبسيط، ونفورنا العام في الوقت نفسه مما نصفه تارة بالتكلف ونصفه تارة بالافتعال والتصنع.. نسبغ عليه هذه الأوصاف والنعوت حين يكون تذوقه أو فهمه أو قبوله في احتياج إلى إجهاد ومكابدة ومشقة !!

ومـع ذلك فإن ما يبدو بسيطـاً مبسطـاً لدى البعض، قد يكون شديد التعقيد لدى غيرهم تبعاً لاختلاف قدرات المخ وسعة شبكة الأعصاب عن نظائرها لدى الغير !

ولكن حين يتجاوز الآدمي حدود الحياة العادية المألوفة إلى محاولة استبطان ومعرفة شيء من حقيقة أجهزة بدنه ونفسه وعقله بقدر أكبر من التفصيل، وكيف تؤدي وظائفها وتقوم بعملها ومتى كيف تختل وكيف تعالج أو يواجه اختلالها، عندئذ سرعان ما تختفي تلك البساطة التي نعشقها ونرتاح إليها، ويحل محلها تركيب وتعقيد شديدان مجهدان.. ويكتشف الباحث في ذلك أنه معرض في كل خطوة من خطوات البحث والعلاج للأخطـاء والأخطـار، ويكتشف -إن لم يكن قـد اكتشف سلفاً- أن ما يسمى بالقوانين العلمية لا يعدو أن يكون «تقريبات» فقط، وأنها بحكم ذلك تحتاج دائما لمراجعة الفحص والضبط والمزيد من التأكد.. فربما بانت فيها مع المراجعة عيوب وأخطاء كانت خافية، مما يستوجب إعادة النظر فيها، وقـد يؤدى ذلك إلى إدخـال تعديلات عليها أو إلغائها وإحلال ما يظهر مجددا بالبرهان المقنع أنه أكثر قربا من الصحة والدقة !! وهكذا، لا ينتهي المزيد من البحث والتمحيص والفهم، إلاَّ إلى مزيد آخر من البحث والفهم وبلا نهاية ما دام الآدمي مواظباً باقياً على إعمال فكره وبحثه وتأمله ملتزما الرغبة فى المزيد من المعرفة وفهم الحقيقة !

أما إذا كَلَّ الإنسـان أو ملَّ وتوقف، وقنع بمـا وصل أو وصل السابقون إليه، فإنه يبدأ حينئذ مرحلة أو مراحل الرجعة والهبوط والتدهور.. قد تقصر مدته إذا عاد وأفاق، وقد تستغرق آماداً وقروناً إلى أن يفيق الآدمي وينتبه ويلتفت إلى ما منح من استعدادات وملكات فيعود إلى استنفارها وإعمالها واستخدامها وتنميتها والاعتزاز بها !

الميل إذن إلى البساطة والتبسيط هو فيما يبدو ميل إلى الكسل واللهو والراحة البدنية والنفسية والعقلية.. ولعل في هذا الميل شيئا من الغريزة أو الطبيعة لمقابلة المجهود أو محاولة تعويض ما يبذله الآدمي من عناء حينما يصطنع الجد والاجتهاد !.. بيد أن هذا الميل (الغريزي) فيه قابلية هائلة للمغالاة والإسراف ثم الاعتياد عليها خاصة بين كتل العاديين الذين تتحكم فيهم عادات السلوك المألوف على ما هي عليه !!

على أنه من المهم أن ندرك أنه ربما أدى تفشى هذه الموجة بين الكتل، وشيوع الميل فيها إلى الكسل والراحة وتفضيل اللهو ربما أدى إلى سد منافذ وفرص الاجتهاد لدى الأقلية المستعدة المهيأة الراغبة في الكدح، القادرة عليه، وأغراهم في غمرة سيادة هذا التيار بمجاراته، وهيأ لهم الانصراف إلى استخدام ما لديهم من الملكات، لا في الكدح والبذل والعطاء، ولكن في أخذ نصيب أكبر من الترف والمتعة والسلطة والجاه.. حينئذ يجد الانتكاس العام طريقه الواسع الرحب، ويتجه المجتمع بأسـره إلى منحدر التراجع والهبوط !!.. يحدث ذلك حين يتملك الجمود أو التجمد من المجتمع، فيصير كل ما فيه ومن فيه ثابتاً مقرراً، معروف البداية والنهاية، بما لا سبيل إلـى تبديلـه أو زحزحته أو تحريكه ! .. هنالك تتراجع همم وإرادات وعزائم الناس، فلا يطلب الخيرون أكثر من السمعـة الطيبة وسعة الرزق، ولا يكف غير الخيرين عن طلب الزيادة، إما في المال أو في السطوة أو فيهما معا !!.. تختل بوصلة التمييز بين الحسن والقبيح، وبين الخير والشر، وبين الجاد والمظهري، ويغفل اللاهون عن نداء الحق تبارك وتعالى: «يَا أَيُّهَا الإنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ» (الانشقاق 6).

مع هذا الضياع المصاحب للانصراف عن الكدح والبذل والعطاء، تتحوصل وتتمكن عوامل النحر والتحلل التي تلازم حتما كل ما يتوقف عن النمو والزيادة والتطور والتطوير في عالم صائر متحرك على الدوام ! .. من المخيف أن حالة التراجع والنحر والتحلل قد تستمر زمنا يطول إذا قسنا بمقاييس الماضي وعَوّلنا على سوابق التاريخ التي تورى لنا أن هناك من فترات التراجع والتدهور ما امتد قرونا قبل أن تنحسر موجته لتفسح المجـال لحركـة صعود جديدة تمضى بالإنسان إلى حيث يجب في هذا الكون الذى لا يكف عن الحركة والاطراد والنماء !

زر الذهاب إلى الأعلى