القمم وسعي الناس

القمم وسعي الناس

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 24/8/2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

ينشغل الآدمي طوال حياته بتحقيق طموحاته، وبطلب الرفعة أو التقدم أو الارتفاع أو الصدارة أو المجد.. تمضي به رحلة الحياة عبر محطات أو مراحل، ولكن عينه لا تكف عن رصد أهدافه والتطلع إلى غاياته، مثلما لا يكف سعيه ومناهدته من أجل تحقيق ما يتمناه أو يرجوه أو يرى أنه جدير به خليق بإمكانياته ومواهبه وملكاته وقدراته.. سعي الآدمي وجريه وربما لهاثه وراء طموحاته، سعى لا ينى ولا يهدأ ويكـاد يكون شاغل معظم الناس إلا من انسلت من تيار الحياة أو تطلعاتها إما لتحليق روحاني صوفي أو نظر فلسفي خاص، وإما لعلل أو مثبطات أو عوائق أو موانع أو ما شابه فرضت عليه أن يقنع بما هو فيه، ويكف عن التطلع إلى المزيد.. يبقى الآدمي مشغولاً «بالقمة» أو «الذروة» التي يريد، فإذا بلغها ربما بحث عن قمة تالية أو قمة أخرى موازية، ولكن حاله بالتأكيد على القمة غير حاله قبل أن يبلغها، وما يصادفه ويلقاه ويواجهه وهو متربع عليها يختلف اختلافـًا هائلاً عمـا صادفه وألفاه وكابده وواجهه في صعوده أو ارتقائه إليها !

والقمم التي أعنيها ليست قمة واحدة، وإنما هي قمم وذرا متعددة بتعدد النشاط الآدمي وتنوعه واختلافه في الحياة.

تختلف القمم والذرا أو الصدارات «الأدبية» كعمادة الأدب أو إمارة الشعر ومشيخة مهنة أو حرفة، عن تلك التي تمتلك سلطـة أو فعالية وتمـارس ممارسـة إدارية أو تنفيذية أو سياسية أو دولية.

اجتماع القمم أو الذرا لدى الشخص الواحـد وارد، ولكنه ليس قائمـًا في كـل الأحـوال.. «ليوبولد سنجور» كان رئيسا للسنغال، يحتل قمتها السياسية، وكان شاعرًا متميزاً احتل في بلده قمة الشعر.. وهي قمة «أدبية» لا تمارس سلطات.. وتاريخنا الأدبي والفكري والثقافي، والسياسي أيضًا حافل بصور تكرر فيها الجمع بين قمم أو ذرًا متنوعة، وأخرى استعصى فيهـا الجمـع وقد يصل الحال إلى تنافر لا يتفق مع ما يجب أن تترجم عنه المواهب أو الملكات أو العلم والمعرفة أو القدرات !

احتل طه حسين عمادة الأدب العربي، وبلغ أيضًا عمادة كلية الآداب، وولى وزارة المعارف، ورئاسة مجمع اللغة العربية بعد أحمد لطفى السيد.

ومع أن عباس العقاد قد احتل قممًا وذرا عديدة لم يبلغها سواه، ولكنها «أدبية» لا سلطة ولا سلطان فيها، عمادة الفكر، وعمادة الأدب، وعمادة المنافحة طوال حياته عن الإسلام، وعمادة الشعر، وعمادة النقد، ومضت حياته غنية بقمم أدبية ولكن دون أي قمة إدارية أو تنفيذية أو سياسية.

رأينا أحمد شوقي ومعه حافظ إبراهيم على قمة الشعر في عصرهما.

ورأينا قممًا عديدة في عالم الصحافة.. محمد التابعي، ومصطفى أمين، وعلى أمين، ومحمد حسنين هيكل، وإحسان عبد القدوس الذي اعتلى قمة أيضًا في عالم القص والرواية، وغيرهم من نجوم الصحافة حتى الآن.

عرفت المحاماة «قلة» جمعت بين قمة ومشيخة وأستاذية المهنة، وبين الموقع النقابي الموكول إليه تنظيم رعاية وآليات المهنة.. منهم – تمثيلاً لا حصرًا – إبراهيم الهلباوي أسطورة المحاماة، وأول نقيب للمحاميـن، وعبد العزيـز فهمـي صاحب قمـم «المحامـاة» و«القضاء» و«الوزارة» و«النضال السياسي الشريف العفيف»، وقمة رئاسة حزب الأحرار الدستوريين، وثاني نقيب للمحامين، ومنهم مكرم عبيد صاحب الصيت والمشيخة والأستاذية والقمة المتفردة في مشيخة المحاماة، هذا إلى تبوئه موقع النقابة غير مرة، فضلاً عن قمم سكرتارية الوفد، ورئاسة الكتلة الوفدية، وما كان قد شغله من وزارات قبل اختلافه مع مصطفى النحاس.. وكما تبــوأ الموقع النقابي من لم ينالوا مشيخة أو قمة المهنة، فإن المحاماة عرفت قمما في مشيختها وأستاذيتها تجاوزت «قامة» المواقع، ورسمت وسطرت صفحات وضاءة عاشت ولا تزال في ضمير المحاماة عبر أجيال.. من هؤلاء -تمثيلاً لا حصرًا- سعد زغلول، ومصطفى النحاس، ومصطفى مرعى، ومحمد عبد الله، وعزيز فهمي، وعلى منصور.. وآخرون، منهم من ارتقى قممًا أخرى ولكن غير نقابية، ومنهم من عاش متبتلاً في المحاماة وحظي بمشيختها وأستاذيتها وقمتها عمره وما بعده.

ليست جميع القمم أو الـذرا واحدة إذن، لا في نوعها ولا في جنسها ولا في فصيلتها.. من أجل ذلك كان شكل محيط القمة، ومناخها، وما يلابسها أو يواجهها.. وما يلزمها وتحتاجه، بالغ الاختلاف من قمة إلى أخرى.

عشق القمم والذرا يكاد يكون سمتا مشتركا لدى كثير من الناس!.. يمضي الآدمي عمره في مناضلة للوصول للقمة، ثم يفجأ حين يبلغها بأنها ليست بالصورة الوردية التي تخيلها وتمناها، وبأن أثقل ما يلازمها لا سيما القمم السياسية العليا الإحساس بالوحدة أو «الصقيع» المحيط بها.. فضلاً عن القذائف والأحجار والسهام والطعنات التي تأتي من هنا وهناك.

القمم إذن ليست وردية ولا هي مخملية في جميع الأحوال، فالقمم السياسية تلاقـى «صقيع» القمة، وما حولها من صعاب وأشواك، وتتنوع الصعاب بتنوع القمم أو الذرا التي ينشدها كثير من الناس.

والقمة السياسية معاناة وتيقظ وانتباه ومكابدة وانشغال بهموم ومشاكل بالغة التنوع والتركيب والتعقيد ـ وانشغال دائم بمغالبة «الصقيع» ورفع الحواجز أو القناطر والسدود، للالتحام بالقاعدة التحاقًا حيًّا فاعلاً يبقى ويحفظ ويثري القدرة على رصد وجيب القلوب ونبضات وآمال الناس.

زر الذهاب إلى الأعلى