القصد الجنائي الاحتمالي: حين يقبل الجاني بالمجهول

بقلم الدكتور/ محمد عاطف كامل – دكتوراه في القانون الجنائي ومحاضر بكلية الحقوق والجامعة العمالية

نُلقي الضوء في هذا المقال على نبذة موجزة عن القصد الجنائي والقصد الاحتمالي، (دون الخوض في النظريات القانونية المتعلقة بنظريات العلم والإرادة في القصد الجنائي، وكذلك معايير تحديد القصد الاحتمالي وهما نظريتا الاحتمال والقبول)، مع التأكيد على أن الجريمة تُبنى على ركنين أساسيين هما الركن المادي والركن المعنوي. ويحظى الركن المعنوي بأهمية بالغة مماثلة للركن المادي، إذ يسهم في بناء الجريمة من خلال إظهار العلاقة بين ماديات الجريمة وشخصية الجاني، وترتكز هذه العلاقة على الطابع النفسي المرتبط بإرادته وإدراكه وحرية اختياره، وهي العناصر التي تُعد مناط المسئولية الجنائية.

وإذا كان يلزم وقوع الجريمة من الجانى نفسه، فيشترط أن تقع بإرادته التي تعد الأساس المعول عليه في تقرير المسئولية الجنائية سواء في الجرائم العمدية أو غير العمدية، فالإرادة تصدر عن شخص مميز، واعٍ له كامل الحرية في الاختيار.

ويشتمل الركن المعنوي ـ وفقًا لمنهج بعض الفقهاء الجنائيين- على عنصرين مهمين، هما: الأهلية الجنائية والإثم الجنائي (وهو جوهر الإرادة الإجرامية)، إلا أن غالبية الفقه ترى أن الأهلية الجنائية ليست عنصرًا من عناصر الركن المعنوي، وإنما هي شرط لتحمل المسئولية الجنائية، ويركز الحديث في هذه النقطة على عنصر الإثم الجنائي، باعتباره مكونًا للركن المعنوي، والذي يتخذ إحدى هاتين الصورتين:

1- القصد الجنائي بصوره المختلفة (العمد في الجرائم العمدية).

2- الخطأ غير العمدي (غير العمد في الجرائم غير العمدية).

وبناءً على هاتين الصورتين للإثم الجنائي، فإن الإثم يحدد شكل الجريمة من حيث كونها عمدية بتوافر القصد الجنائي بأي صور يكون عليها، أو غير عمدية متمثلة في الخطأ غير العمدي.

ومن العرض السابق، نطرح تساؤلاً: ما المقصود بالقصد الجنائي كعنصر في الركن المعنوي للجريمة؟

يشكل القصد الجنائي إحدى ركائز الركن المعنوي للجريمة، وهو الذى يُظهر الصورة النفسية لمرتكب الجريمة العمدية التي تعد من أبشع صور الجرائم من حيث كونها تُهدد أمن وأمان المجتمع فى سلامته، ويعرف القصد الجنائي بأنه: “اتجاه إرادة الجانى نحو ارتكاب الجريمة مع الميل بتوافر أركانها القانونية”.

وقد ترسخ في القانون الجنائي قاعدة هامة مفادها أن الأصل هو أن الجرائم عمدية، أي أن المشرع إذا لم يفصح عن بيان صورة الركن المعنوي لأي من الجرائم الواردة بالقانون، فهذا معناه أنها جريمة عمدية ويجب توافر قصد جنائي لها، وعلى العكس من ذلك فإذا أفصح القانون عن نيته ورغبته في تحديد الجرائم غير العمدية أي الجرائم التي يرد فيها الخطأ غير العمدي، فإنه يلتزم ببيان وتحديد هذه النوعية من الجرائم غير العمدية، وبناءً عليه فالاستثناء هو أن الجرائم غير عمدية وهذه الأخيرة يجب النص عليها تحديداً في القانون لحماية بعض المصالح التي يري المشرع جدارتها للحماية الجنائية.

صور القصد الجنائي:

تعددت وتنوعت صور القصد الجنائي، وهى على النحو التالي (القصد العام -القصد الخاص -القصد المباشر -القصد الاحتمالي (غير المباشر) -القصد المحدود -القصد غير المحدود -القصد البسيط-القصد المصمم عليه (المُقترن بسبق الإصرار) -القصد المتعدي أو ما وراء العمد (وهو الجرائم متعدية القصد أو الجريمة المتجاوزة للقصد الجنائي).

ونظراً لتعدد صور القصد الجنائي كما بينا، فإننا نعرض وبإيجاز صورة واحدة منها، وهى صورة القصد الجنائي الاحتمالي (القصد غير المباشر).

في بادئ الأمر يلزم لتوافر القصد الجنائي لدى الجانى تحقق عناصر أساسية وجوهرية، وهى عناصر العلم والإرادة -ودون الخوض فى نظريات العلم والإرادة- والتي تشكل عناصر داخلة في الركن المعنوي للجرائم العمدية، فالعلم هو ذلك العلم الموجه إلى العناصر المكونة للجريمة أي ماديات الجريمة والقواعد القانونية، أما الإرادة فهى المنصبة على النشاط المادي الذى وقع من الجاني والمتجه نحو تحقيق النتيجة الإجرامية، وتلك الإرادة يلزم فيها توافر حرية الاختيار.

الرأي الفقهي حول القصد الجنائي وعلاقته بالقصد الجنائي العام:

استقر غالبية الفقه الجنائي المصري على اعتبار القصد الجنائي العام هو ذاته القصد الجنائي،

ومضمون القصد العام هو انصراف إرادة الجانى إلى تحقيق النتيجة الإجرامية، وهذا الأمر جعل القصد الجنائي العام كافياً لقيام العمد، وبهذه الكيفية يعد القصد الجنائي هو القصد المباشر وذلك أن القصد المباشر يتخذ إحدى هاتين الصورتين (القصد العام، القصد الخاص).

ونطرح نتساؤل، هل القصد الجنائي يتخذ دائماً هذه الصورة السهلة الواضحة المباشرة دائماً أم إنه قد يأخذ صورًا غير مباشرة؟

رداً على هذا التساؤل، فإن القصد الجنائي كما ذكرنا تنوعت وتعددت صوره، ومنها القصد غير المباشر أو ما يطلق عليه القصد الاحتمالي، فما المقصود بالقصد الاحتمالي (القصد غير المباشر)؟

يمثل القصد الاحتمالي (القصد غير المباشر) إحدى صور القصد الجنائي، ولفظ “الاحتمال” ورد بجانب لفظ “القصد” لأنه “الاحتمال” أمر مرتبط ومتعلق بالنتيجة الإجرامية والتي كان من المتوقع والمحتمل حدوثها عند الجانى عندما قرر ارتكاب عمله الإجرامي الذى قصد منه تحقق نتيجة إجرامية معينة مع احتمالية حدوث نتائج أخري يثار الشك حول حدوثها، ولكنه لا يكترث لوقوعها فيقبل بحدوثها كنتيجة ثانية لنشاطه الإجرامي، بالتالى فالقصد الاحتمالي مرتبط بالنتيجة الإجرامية وليس السلوك أو النشاط المادي الذى ارتكبه الجانى.

واستناداً على ما سبق فإن القصد الاحتمالي (غير المباشر) ينصب على النتيجة الإجرامية بناءً على تحقق إرادة وإدراك الجانى وليس االسلوك المادي إلا أن القصد الاحتمالي متولد عنه، لأن الفعل السلوك يكون واحداً ونتج عنه عدة نتائج، فالجانى يسعى لحدوث أثر معين أو نتيجة لنشاطه الإجرامي، ثم يتوقع (متشككاً) حدوث نتائج أخرى إن وقعت فيقبلها، فهو يقدم على ارتكاب عمل معين يقصد منه تحقق نتيجة معينة، فالنتيجة الأولى هي تكون واضحة أمامه على وجه اليقين، فتعد النتيجة الأولى  الصورة الطبيعية للقصد الجنائي المباشر، الأمر الذى يتحقق معه الصورة العمدية أو الجرائم العمدية، أما النتيجة أو النتائج الأخرى فتأخذ شكل الاحتمال والشك من وقوعها، وهنا يتحقق القصد الاحتمالي عند قبوله لها.

ورغم ذلك فالوضوح الذى سردناه سابقاً لا يتحقق بهذه السهولة في الجرائم العمدية، لأن القصد الاحتمالي، يقع عند ارتكاب الجانى نشاط محدد ويتوقع فيه أكثر من نتيجة إجرامية لفعله المادي المجرم، وتعد هذه الحالات التي من الصعوبة بمكان استظهار ركن العمد فيها، فاحتمالات حدوث أكثر من نتيجة إجرامية كانت هي الحالة المسيطرة على الجانى، بالتالى تفرقت توقعاته كلها حول نتائج عدة.

مدى ارتباط القصد الاحتمالي بالقصد الجنائي:

القصد الاحتمالي يُعد صورة من صور القصد الجنائي، وهذا يتطلب أن يكون لدى الجاني نية محددة لارتكاب جريمة معينة من خلال قيامه بنشاط أو سلوك مادي يهدف من خلاله إلى تحقق النتيجة الإجرامية. إلا أن القصد الاحتمالي يتجاوز ذلك، إذ إن الجاني وإن كان يقصد حدوث نتيجة محددة على وجه اليقين، إلا أنه يتوقع حدوث نتائج أخرى كأثر مترتب على سلوكه الإجرامي ويقبل بها. إذن، فالقصد الجنائي يُعد المرحلة الأولى، ثم تأتي المرحلة الثانية وهي القصد الاحتمالي الناتج عن وجود قصد جنائي. وبناءً عليه، فإن القصد الاحتمالي يدور وجودًا وعدمًا مع القصد الجنائي، إذ يُشترط أولًا توافر قصد جنائي ثم قصد احتمالي (غير مباشر)، فانتفاء القصد الجنائي يؤدي بالضرورة إلى انتفاء القصد الاحتمالي. واستنادًا إلى ما سبق، فإن تحقق القصد الاحتمالي ينتج عنه نتيجة أشد جسامة من النتيجة الأولى في القصد الجنائي، ويأتي القصد الاحتمالي لاحقًا ولا يسبقه.

عناصر القصد الاحتمالي:

يتكون القصد الاحتمالي من عنصري العلم والإرادة نظراً لكونه إحدى صور القصد الجنائي -ودون الخوض في نظريتي العلم والإرادة- هل العلم والإرادة المتوافر في القصد الجنائي أو القصد المباشر هو ذاته العلم المتوافر في القصد الاحتمالي؟

عناصر القصد الاحتمالي:

يتكوّن القصد الاحتمالي من عنصري العلم والإرادة لكونه أحد صور القصد الجنائي، ودون الخوض في تفاصيل نظريتي العلم والإرادة، يُطرح التساؤل: هل العلم والإرادة المتوافران في القصد المباشر هما نفسهما في القصد الاحتمالي؟

بالنسبة للعلم، فإن اليقين والشك هما الحاكمان في للعلم؛ فالعلم اليقيني بالنتيجة المتوقعة من السلوك المادي للجاني والتأكد من وقوعها يمثّل القصد المباشر، أما الشك فهو الحالة التي تسيطر على الجاني عند ارتكابه السلوك، فيكون العلم بحدوث نتيجة غير مؤكدة أمرًا محتملًا لا يقينيًا.

أما من حيث الإرادة، فإن إرادة الجاني عند ارتكابه السلوك الإجرامي تتجه ابتداءً إلى إحداث نتيجة محددة (وهو القصد المباشر)، بينما في القصد الاحتمالي، فإن الجاني يسلك سلوكًا إجراميًا معينًا لإحداث نتيجة محددة، لكن قد يترتب على هذا السلوك نتيجة أخرى أشد خطورة من الأولى التي قصدها وتيقّن منها، فيقبلها ويرضى بها. وبذلك يتوافر العلم والإرادة في القصد الاحتمالي أيضًا.

المعيار الذي يُعتدّ به في بيان ما إذا كان القصد مباشرًا أم احتماليًا:

تُعد نفسية الجاني وما يدور في ذهنه ونيّته قبل ارتكاب الجريمة أو أثناءها هي المعيار الأساسي لتحديد ما إذا كان القصد مباشرًا أم احتماليًا. بمعنى أنه إذا توقّع الجاني حدوث نتائج غير مؤكدة وأحاط بها الشك، كان هذا قصدًا احتماليًا لا مباشرًا، وذلك إذا كان لديه في البداية يقين بتحقق نتيجة معينة ورغبة في إحداثها، لكن لم يبلغ يقينه درجة اليقين التام إزاء النتائج الأخرى المحتملة المترتبة على سلوكه، إلى جانب النتيجة التي سعى لتحقيقها. وعليه، فإن المعيار هنا شخصي مرتبط بذهن الجاني وما يدور فيه.

العلاقة بين القصد الاحتمالي والخطأ غير العمدي:

 

يقع الخطأ غير العمدي عندما يرتكب الجاني سلوكًا إنسانيًا في شكل حركة عضوية إرادية، يكون هذا السلوك في ذاته صالحًا لأن تترتب عليه نتيجة إجرامية لم تتجه إرادة الجاني إلى إحداثها، مما يُعد اعتداءً على حق أو مصلحة يحميها القانون.

والخطأ الذي يرتكبه الجاني لا تتجه إرادته فيه إلى إحداث النتيجة، بل كان في مقدوره تفاديه لو بذل قدرًا من اليقظة والانتباه والتحرّي.

وبخصوص العلاقة بين القصد الاحتمالي والخطأ غير العمدي، فإن الأول يُعد صورة من صور القصد الجنائي وأحد أشكال الإثم الجنائي، وينتج عنه ارتكاب جرائم عمدية؛ حيث يسعى الجاني إلى نتيجة أولى بعلمه وإرادته ويتيقن من حدوثها، ثم يتوقع نتائج أخرى محتملة ولا يتردد في قبولها إن حدثت، لذلك يُعد القصد الاحتمالي أشد من القصد العمدي البسيط. أما الخطأ غير العمدي، فإنه يتحقق بسبب رعونة الجاني أو إهماله أو عدم احترازه أو مخالفته للقوانين واللوائح، دون أن تتجه نيته أو إرادته أصلاً لإحداث النتيجة الإجرامية، التي تقع فقط نتيجة خطئه، فيكون القصد الجنائي منعدمًا تمامًا.

ومن ثم، يُستنتج أن القصد الاحتمالي يُعد مرحلة وسطى بين القصد الجنائي المباشر والخطأ غير العمدي.

 

المراجع: بعض من مؤلفات قانون العقوبات القسم العام، والمؤلفات المتخصصة

زر الذهاب إلى الأعلى